الرايات السود ـ عبد الله عزام من الجهاد إلى الاغتيال (2) * الشيخ الفلسطيني يؤجل قضية فلسطين

الشيخ الراحل يتحدث عن عهد مع المجاهدين الأفغان بأن يساعدوه في قضية القدس كما ساعدهم في بلدهم سأل أبو حمزة المصري الشيخ عبد الله عزام حين دعاه الأخير الى السفر لأفغانستان دعما للجهاد: «كيف أذهب الى أفغانستان يا شيخ عبد الله، انك تطلب مني أن أذهب الى هناك وهي بعيدة ألفي ميل عن بريطانيا ـ حيث كان يعيش أبو حمزة ـ في حين أن بيننا وبين القدس حائطا من الأسلاك، فكيف لا تأمرنا أن نتخطاه وتطلب منا الذهاب كل هذه المسافة الى أفغانستان؟».

وقال أبو حمزة: «كنت أرى في ذلك الوقت أن بعض المشايخ لا يرون الوضع جيدا». فقال له عبد الله عزام: الأمة في سبات، وأفغانستان هي الطريق وان اختلف الاتجاه، انها الطريق الى التدريب ولانشاء كوادر تقاتل من هذه الأمة. ويعقب أبو حمزة: «ما قاله الشيخ عبد الله فيه جانب كبير من الصحة، الأمة كانت في سبات، والحرب مع اسرائيل هي حرب مع أميركا، ومع كثير من الأنظمة التي نحسبها اسلامية. هو كان مستوعبا لهذا الجزء القتالي. وكنت أنا مستوعباً لجزء عقائدي فقط».

لم يكن ما قاله عبد الله عزام مقنعاً، لكن أبو حمزة اقتنع. وقد اقتنع مئات ان لم يكن آلاف غيره من الأفغان العرب بحتمية تأجيل قضية القدس حتى يتم تحرير كابل. لكن المثير في الأمر أنه حين تم تحرير كابل كان أن تشرذم غالبية هؤلاء الى عشرات الاتجاهات الأخرى في البوسنة والشيشان وكشمير والفلبين وايغورستان (الصين) وكوسوفو. ولم يذهب أي منهم الى فلسطين. ان تلك نقطة مثيرة تماما للجدل ومعبأة بالألغاز لعدة أسباب:

* جنسية الداعية الأول للجهاد الأفغاني وانتماؤه، عبد الله عزام الفلسطيني الذي اشترك لبعض الوقت في المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967. ثم نذر الجزء الأخير من حياته بالكامل لقضية الأفغان ليس هو فقط، بل ومن معه.

* جنسية وانتماء «العرب» الذين تمت دعوتهم للجهاد في أفغانستان نفسا ومالا، والذين اختاروا طواعية السفر الى وسط آسيا بدلا من أن يفعلوا شيئا من أجل القضية المصيرية العربية الأولى التي رضعوا آلامها وتعبوا من معاناتها.

* ان القضية الأقدم والأعرق والأهم قوميا هي قضية فلسطين، وما تبعها في ذلك التوقيت من أحداث مهمة توجت بالانتفاضة الأولى في عام 1988. وما سبق ذلك من عمليات غزو اسرائيلية لجنوب لبنان.

* ان قضية فلسطين ذات أبعاد دينية مهمة جدا، لا تقتصر فقط على أنها صراع مع اليهود بكل ما لهذا الصراع من امتداد وخلفية عقيدية في الفقه والعقيدة الاسلامية، وانما تمتد كذلك الى أهمية القدس والمسجد الأقصى الدينية، أولى القبلتين وثالث الحرمين. لقد دعم هذا التناقض الرهيب والثغرة الهائلة في المنهج، الظنون التي ترى أن الشيخ عبد الله عزام، كان يقصد ذلك بالفعل في ضوء دعم الولايات المتحدة الكامل للجهاد الأفغاني واختراقها لصفوف وعقول من يدير هذا الجهاد. وشكك بالتالي في نقاء الأهداف المعلنة، والتي رفعت أقدس الشعارات الدينية بشرط أن يتم تطبيقها بعيدا هناك في أفغانستان. أفغانستان أولا لو أن الشيخ عبد الله عزام لم يكن فلسطينيا، ولو أنه لم يكن قد هب فجأة الى مهمة «الجهاد الأفغاني» بعد نحو 12 عاما من التوقف عن أي عمل حركي معلن، لكانت الشكوك قد خفت ولكانت الريبة قد زالت. صحيح أن له خلفية اخوانية، الا أنها اجمالا غير مؤثرة أو ملموسة، فضلا عن أنه لم يكن ضمن قيادة منظمة معروفة في أي تنظيم ديني طوال تلك السنوات التي سبقت هذا الحماس الرهيب منه لقضية أفغانستان. فهو كان مجرد أستاذ جامعي متخصص في الفقه بدون تاريخ بارز في الساحة التي تصدى لتصدرها. ولا يتنافى مع تلك القرينة كونه كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين الفلسطينية، ولا تثبت الوقائع التاريخية أنه من الذين كان لهم دور أساسي في هذه الجماعة. وقد كانت هذه النقيصة تطارد الشيخ عزام في كل مكان، وكان هو يلمس التناقض الذي عاب خطابه ومنهجه لا سيما أنه الرجل الذي اتبع فتوى حتمية الجهاد في أفغانستان باعتباره ـ كما رأى ـ واجبا على كل مسلم بفتوى أخرى عنوانها «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان». في هذه الفتوى طرح عبد الله عزام على نفسه السؤال: «هل نبدأ بأفغانستان أم نبدأ بفلسطين؟». وبداية قال: «اذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين فان الجهاد يتعين على أهل تلك البقعة وعلى من قرب منهم. فان لم يكفوا أو قصروا أو تكاسلوا يتوسع فرض العين على من يليهم، ثم يتدرج فرض العين بالتوسع حتى يعم الأرض كلها شرقا وغربا» وبالتالي حسبما يرى: «ان اثم تقاعس جيلنا عن النفير في القضايا المعاصرة ـ كأفغانستان وفلسطين والفلبين وكشمير ولبنان وتشاد واريتريا ـ أشد من اثم سقوط الأراضي الاسلامية السابقة التي عاصرتها أجيال مضت، وكنا نقول يجب أن نركز جهودنا على أفغانستان وفلسطين الآن، لأنهما قضيتان مركزيتان، والعدو المحتل ماكر يحمل برنامجا توسعيا في المنطقة كلها، ولأن في حلهما حلا لكثير من القضايا في المنطقة الاسلامية كلها، وحمايتهما حماية للمنطقة كلها». (نقلا عن كتاب «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الاعيان»). وبغض النظر عن أن عبد الله عزام كان يركز جهوده على أفغانستان وليس على فلسطين كما قال، وبغض النظر عن أنه ساوى في الأهمية بين القضيتين فضلا عن مساواته لهما بقضايا أخرى في الفلبين وكشمير، فان عبد الله عزام كان يرى دوما أن البداية الواجبة هي أفغانستان: «من استطاع من العرب أن يجاهد في فلسطين فعليه أن يبدأ بها، ومن لم يستطع فعليه أن يذهب الى أفغانستان. وأما بقية المسلمين فانني أرى أن يبدأوا جهادهم في أفغانستان. اننا نرى البدء بأفغانستان، لا لأنها أهم من فلسطين، بل فلسطين هي قضية الاسلام الأولى، وقلب العالم الاسلامي وهي الأرض المباركة». ولكن هناك أسبابا تجعل البدء بأفغانستان قبل فلسطين أولى منها، حسبما قال، وهي في رأيه:

* ان الراية في أفغانستان اسلامية واضحة، والغاية واضحة «لتكون كلمة الله هي العليا»، ولقد نص دستور اتحاد مجاهدي أفغانستان في المادة الثانية «ان الهدف من هذا الاتحاد هو اقامة دولة اسلامية في أفغانستان». وفي المادة الثالثة «ان هدفنا منبثق من قوله تعالى: «ان الحكم الا لله»، فالحاكمية المطلقة لرب العالمين».

* ان المعركة في أفغانستان ما زالت قائمة وعلى أشدها وتشهد ذرى «الهندكوش» ـ جبال معروفة بهذا الاسم ـ في أفغانستان معارك لم يشهد التاريخ الاسلامي عبر قرون كثيرة لها نظيرا.

* لقد سبق الاسلاميون غيرهم الى قيادة المعركة في أفغانستان، فالذين يقودون الجهاد في أفغانستان هم أبناء الحركة الاسلامية والعلماء وحفظة القرآن بينما الأمر مختلف في فلسطين. فلقد سبق الى القيادة أناس خلطاء منهم المسلم الصادق ومنهم الشيوعي ومنهم المسلم العادي ورفعوا راية الدولة العلمانية.

* ان القضية في أفغانستان ما زالت بيد المجاهدين، وما زالوا يرفضون المساعدة من الدول المشركة ـ حسب تعبيره ـ بينما اعتمدت الثورة الفلسطينية كليا على الاتحاد السوفياتي فتركتهم روسيا في أحلك الظروف يواجهون مصيرهم بأنفسهم أمام المؤامرة العالمية، وأصبحت القضية لعبة في يد الدول الكبرى تقامر على الأرض والشعب والعرض في فلسطين، بل تابعتهم فوق أرض الدول العربية حتى أنهت وجودهم العسكري وصفتهم جسديا وعسكريا.

* ان حدود أفغانستان مفتوحة أمام المجاهدين، فهناك أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر من الحدود المفتوحة، بالاضافة الى أن حول أفغانستان منطقة القبائل التى لا تخضع لسلطة سياسية، وهذه تشكل درعا حصينا للمجاهدين. أما بالنسبة لفلسطين فالأمر مختلف تماما، فالحدود مغلقة والأيدي موثقة وعيون المسؤولين متربصة بكل من حاول أن يخترق حدودهم لقتال اليهود.

* ثم ان شعبها فريد في صلابته وعزته، وكأن الله أعد جبالها وأرضها للجهاد. (يقصد أفغانستان). فلسطين.. في ما بعد لا شك أن هذه النقاط أو التبريرات الستة التي جعل عبد الله عزام بمقتضاها الجهاد في أفغانستان أولى من الجهاد في فلسطين، تكشف بوضوح عن دقائق رؤيته المليئة بالتناقض والتي بدا من خلالها أنه يؤجل قضية فلسطين الى الأبد، وأن له أغراضا أخرى مما يقوم به في أفغانستان. ومن الطبيعي أن نتوقف هنا لنسجل عدة ملاحظات على هذه الرؤية:

فأولا: تعبر النقطة الأولى، الخاصة بوضوح «راية الجهاد في أفغانستان»، عن أن الشيخ كان يرى أنه لا تحرير لأي أرض مغتصبة اذا لم يكن الهدف دينيا، وانه يمكن ترك الأرض مغتصبة اذا لم يعلن من البداية أنها ستكون محلا لاقامة أرض اسلامية، وهو أمر غريب. لكنه طبيعي في منهج تفكير الأصوليين، فالشعار عندهم أهم من الهدف. وكأنه اذا تم تحرير الأرض من المحتل بدون اقامة الحكومة الاسلامية كما يريدونها فان من الأفضل أن تبقى محتلة. ولا ينسينا هذا أن أولئك الذين رفعوا الشعار في دستور اتحاد مجاهدي أفغانستان لم يطبقوه بعد نهاية الجهاد وانما اختلفوا وتصارعوا ودب بينهم قتال لا يقل عنفا عن قتالهم للروس. ثانيا: ينعدم المنطق حين يتحدث عبد الله عزام عن ان «أفغانستان فيها معركة على أشدها وما زالت قائمة»، فالمعركة في فلسطين لم تهدأ، ولم تكن قد انتهت، ولعلها المعركة الأكثر نزفا للشهداء منذ زمن طويل وارتفعت سخونة أحداثها على مراحل مختلفة وأدت الى مجموعة كبيرة من الحروب الاقليمية بين العرب واسرائيل. ثم من قال ـ لو افترضنا صحة ذلك ـ ان معركة نائمة يجب أن تبقى كذلك، اذا كان الجهاد كما يصفه عبد الله عزام، فرض عين؟

ثالثا: ليس منطقيا تأجيل الجهاد في فلسطين لأن الذين يبادرون بالقيادة ليسوا من الحركة الاسلامية، ومعنى كلام الشيخ الراحل أنهم يريدون قيادة أي عمل من دون شريك كشرط لقيامهم بالجهاد، وبالتالي انعدام فرص التعاون مع أي أحد من التيارات الأخرى حتى لو كان الهدف وطنيا وعاما. رابعا: ليس صحيحا أن قضية أفغانستان كانت بمعزل عن دعم من تسمى بالدول المشركة، بل ان قضية أفغانستان كانت ساخنة أساسا لأن قائدة «الدول المشركة» ـ حسب مفاهيم جماعات التطرف ـ وهي الولايات المتحدة، هي التي قامت بجهد كبير لاستغلال القضية الأفغانية ودعمها ودعم المجاهدين ومن معهم تحقيقا للمصالح الأميركية. وفي مراحل أخرى كثيرة تحدث الاسلاميون عن قبولهم لهذا الدعم لاتفاق هدف المصلحة حتى يدرأوا عن أنفسهم القول بأنهم عملاء للولايات المتحدة. خامسا: تبدو نقطة الحديث عن الحدود المغلقة هي الأكثر منطقية، ولكن حتى هذه أثبتت الأيام عدم صدقها، اذ ان المقاومة الفلسطينية باتجاهاتها العديدة خاضت معركة من الداخل كانت، ولم تزل بمثابة العمل النضالي الجهادي العظيم الذي حقق ازعاجا كبيرا لاسرائيل بدون أن تفتح أي حدود، فالمقاومة تنبع من الداخل قبل الخارج في غالبية الأحيان. ومن هنا تكتسب كذلك جزءا كبيرا من مصداقيتها وشرعيتها. أما النقطة السادسة التي يتحدث فيها عبد الله عزام عن أن «جبال الهندكوش وأفغانستان تبدو وكأنها قد خلقت لهذا الجهاد، وعزة شعبها وصلابته»، فهذه نقطة مثيرة للخفة والاستخفاف، فهي فضلا عن أنها تعبر عن رؤية عبد الله عزام لصلاحية أرض دون أخرى للجهاد، فانها تنفي عن الشعب الفلسطيني عزته وصلابته، وهو مبرر يتجاهل تماما أن هذا الشعب العزيز الصلب «الأفغاني» هو نفسه الذي ظل على مدى سنوات طويلة تتوزعه ولاءات الدول وتبدلها بين القيادات والقبائل الأفغانية. وربما كان ذلك سر نكبته بعد انسحاب الروس. واجمالا، فان كل المبررات التي ساقها عبد الله عزام في فتواه تلك كانت تفسر: لماذا ذهب الى أفغانستان من وجهة نظره، لكنها لا توضح سببا أكيدا لتأجيل الجهاد في فلسطين. نظرية المسجد الآخر لكن هذه المبررات لم تكن لدفع حدة الانتقاد المستمر لعبد الله عزام في هذه الناحية، وقد ظلت الأسئلة تطارده من مكان لآخر، وأينما حل، وفي كل مرة كان الشيخ الراحل يضيف أمرا ما لكنه اجمالا بقي محصورا في حتمية أولوية الجهاد في أفغانستان. في احدى محاضراته في الكويت سئل عن هذا مجددا فقال: «الجواب عندي وعندكم، فالحدود مقفلة، والقيود في الأيادي، والعرب قد يقتلوننا قبل أن يقتلنا اليهود، أنا قاتلت في فلسطين 1969 ـ 1970، كنت مع المجاهدين، وبقينا حتى سحق العمل الفدائي في الأردن وأصبحت الرصاصة تودي بصاحبها، بحثنا عن بقعة أخرى نؤدي فيها فريضة الجهاد، واذا ما استطاع الانسان أن يقاتل في هذه البقعة ينتقل الى بقعة أخرى، أنا فلسطيني، وجرحها في أعماقي، وكل أحلامي وكل أمانيّ أن أنقل الصورة المشرقة التي شرف الله بها البشتونية فوق ذرى جبال الهندكوش الى جبال الخليل». وقد قيل له: يا شيخ عبد الله الصعوبات التي خلقت بعد عام 1970 لا تعني توقف الجهاد فوق الأرض العربية. الجهاد معناه أن الواحد يجاهد في سبيل الله ويموت في سبيل الله. الجهاد مستمر مهما كانت الصعوبات، ولا يتوقف اذا خلقت الظروف غير المواتية في سنة من السنين، ولا يعني هذا أن ننتقل على بعد خمسة آلاف كيلومتر؟

وكان يرد: «الجهاد مستمر، ولكنه ليس محصورا في بقعة واحدة، اذا هدم المسجد الذي بجانب بيتك لا يجوز لك أن تعطل صلاة الجمعة حتى تقيم مسجدا آخر، صل في مسجد آخر، ريثما تبني مسجدا جديدا، أنا أصلي في الأردن، أصلي في أفغانستان. الذي يقتل في أفغانستان يقتل شهيدا اذا كانت نيته الله عز وجل. الله لم يفرق بين عربي ولا أعجمي لا في كتابه ولا في سنة نبيه. نحن نظرتنا نظرة اسلامية وليست نظرة قومية أو علمانية. حيثما وجدنا بقعة نؤدي فيها هذه الفريضة يجب علينا أن نؤديها». ويعني مضمون هذا الكلام أن الشيخ لم يكن يستطيع اقناع أحد بوجهة نظره، فهو مرة يلجأ الى الأسلوب العاطفي: «فلسطين جرح في أعماقي»، ومرة يضع المسؤولية على العرب الخونة في رأيه «الحدود مقفلة»، و«قد يقتلوننا قبل أن يقتلنا اليهود»، ومرة ثالثة يلجأ لنظرية «هدم المسجد» غير المقنعة. اذ ما الذي يدفعه الى الصلاة في هذا المسجد البعيد، لماذا لا يختار مسجدا أقرب، لبنان مثلا. وقد كان يعاني من احتلال اسرائيل والمقاومة الفلسطينية تعاني من حصار رهيب بداخله في نفس توقيت بداية الجهاد الأفغاني؟

لكن الأمر الأهم هو أن كل كلام عبد الله عزام في هذه القضية المثيرة للجدل كان يعني بوضوح اعلاءه النظرة الاسلامية الدينية على النظرة القومية. وأنه حتى لو كتب له العمر في ما بعد لم يكن ليجاهد في فلسطين لو أنه رأى حتمية الجهاد في البوسنة أو الشيشان مثلا، وكان قد بدأ قبل مماته بالفعل بالحديث عن مأساة المسلمين في يوغوسلافيا وألبانيا. لقد كانت هذه النظرة الاسلامية الخاصة به والتي يؤجل بها الجهاد في فلسطين، تتكرر بوضوح في أحاديثه. وفي كاليفورنيا على سبيل المثال، سئل الشيخ عبد الله عزام مجددا: الجهاد الفلسطيني بدأ منذ أربعين سنة والجهاد الأفغاني بدأ منذ عشر سنوات، فكيف انتصر الأفغان ولم ينتصر الفلسطينيون، ثم بعد أن ينتصر المجاهدون الأفغان، وتقوم الحكومة الاسلامية، ما هي نظرتكم للجهاد في فلسطين؟

ان الشيخ الراحل يتحدث بداية عن نظرية التآمر العربي على فلسطين «كل الدول العربية سلمتها لليهود»، وحين يتغلب الشعب الفلسطيني، فان الدول الغربية تضغط على الدول العربية حتى تقبل الهدنة وخلالها يأتي السلاح والمال والرجال لليهود. ثم بعد أن يغرق الشيخ عبد الله سائله في فيض من المعلومات التاريخية حول قصة قضية فلسطين يقول: «أنا كنت أقاتل مع منظمة فتح في فلسطين، فصار خلاف بيني وبينهم فسألت المثقف الثوري، قلت: ما دين فتح؟ قال: فتح لا دين لها، فبقي الاسلام بعيدا عن المعركة في فلسطين. ومن هنا نحن لا نلوم الاسلام لأن الاسلام بقي بعيدا عن المعركة. الذين دخلوا المعركة دخلوا بثياب علمانية وقومية وحمراء وبيضاء وغير ذلك. أما الاسلام فلم يلبس ثوبه الا سنة 1988 عندما قامت «حماس» وأعلنت أنها تقاوم في فلسطين باسم الاسلام، تصوروا «حماس» عندما أعلنت أنها فرع من فروع الاخوان المسلمين في نفس الأسبوع تحرك العالم كله، كل العالم، اجتمع، وأنشأوا دولة للفلسطينيين في تونس، ليس لها سلاح تقاتل به، ليس لها أرض تقف عليها، وفي يوم وليلة اعترفت بها ست وأربعون دولة. والآن صارت مائة». وبغض النظر عن هذا الخلل السياسي والمفاهيم المغلوطة فان هذا لم يدفع الشيخ عبد الله الى أن يدعو لمساندة جهاد حماس، ولم يجمع سنتا أو مليماً لصالح الجهاد في فلسطين حتى حين تحقق له ما كان يتحدث عنه وهو أن هناك من يرفعون شعارات الدين في فلسطين، لكنه يمضي مضيفا: «الدولة الفلسطينية قامت فقط لاسقاط حماس واسكاتها ولايقاف الانتفاضة. ان شاء الله لا يوقفونها». ويكتفي عزام بالدعاء.

اتجاهات جديدة لقد ظل الشيخ عبد الله يتحدث بهذا المنطق الى أن بدأ يتحول تدريجيا في اتجاهات أخرى ردا على ما يقال عن هذا الفلسطيني الذي يحارب من أجل أفغانستان، وليس من أجل فلسطين. وقد كان في هذه الاتجاهات الجديدة غير مقنع أيضا:

* فضيلة الشيخ ما رأيك لو أن الفلسطيني حمل البندقية وصرخ الله أكبر، ما هي المدة التي يمكن أن تحرر بها فلسطين؟ قال: «لو فتحت الدول العربية حدودها، ولو اشترك كل الفلسطينيين المتدينين كما يشترك الشعب الأفغاني الآن في المعركة لا أظن الأمر يطول حتى يخرج اليهود من فلسطين».

* بخلاف هذا الشرط فان الشيخ عبد الله بدأ يتحدث عن عهد بينه وبين الأفغان ينص على أنه سوف يتم التفرغ بعد معركة كابل على أن يبدأوا معه معركة القدس. في هذا السياق يقول: «الآن الأفغاني يقول نريد أن ننتصر هنا لنقتل في رحاب المسجد الأقصى. كثير من الأفغانيين يقولون اللهم حرر على أيدينا كابل ولا تمتنا الا في بيت المقدس. كلهم يقولون ان قضيتنا الأولى هي قضية القدس. وقضية فلسطين ولكن هذه الدواهي التي حلت بنا شغلتنا». ولم تنته حتى الآن الدواهي التي شغلت الأفغان، لكن عبد الله عزام كان يكمل مضيفا: «سياف، حكمتيار، رباني، خالص، كلهم يأتون عندي. والدي عمره 90 سنة، ما جلس مع واحد منهم إلا ويأخذ عليه العهد أن يأتي للجهاد في بيت المقدس بعد أن ينتهوا من كابل. وكلما لقي واحدا منهم يقول لهم العهد، ويقولون له نحن على العهد ان شاء الله».

* ثم عبر عبد الله عزام نفسه وليس والده عن أنه كان ينتوي العودة الى بلده: «قال لي حكمتيار: بماذا تفكر الآن؟ قلت له نفكر أن نوصلكم الى كابل ان شاء الله معززين منتصرين ونرجع الى فلسطين. قال: لا، تبقى معنا سنة أو سنتين. نقيم أعمدة حكمنا جيدا، ثم أذهب واياك الى بيت المقدس. هم يعيشون القضية كاسلام، كدين، ليس سياسة. وبالنسبة للأفغان فلسطين قضية ثالث الحرمين الشريفين، قضية قرآنية وربانية».

* ان حكمتيار لم يسافر في ما بعد الى فلسطين جهادا، ولكنه غادر الى ايران فرارا من أعدائه الأفغان. وهذه الملحوظة لا تنفي أن نشير الى اتجاه آخر ظل مستقرا في ذهن عبد الله عزام، يثير حنقه وغضبه، وكرره كثيرا: «لماذا لم تعترف سوى أربع دول اسلامية بأفغانستان. لأنهم خائفون من أميركا، السعودية وماليزيا والسودان فيها بقية من روح اسلامية، تتحدى مشاعر الروس ومشاعر الاميركيين. الدولة الفلسطينية التي اعترفوا بها ليس لها شبر واحد على الأرض تقف عليه، معلقة في الهواء، ليس لها موقف المنتصر. الأفغان حرروا أكثر من 90 من أرضهم، منتصرون، يتكلمون من فوق قمة المجد ولا يعترف بهم أحد».

* ثم يعود الشيخ في ما بعد الى كلام يشبه كلامه الأول: «أفغانستان مثل قضية فلسطين هي قضية الاسلام الجريح في كل مكان الذي يحارب بكل سنان. اذا كتب الله لنا أن نحرر أفغانستان كاملة فقد أعددنا أجسادنا وأرواحنا وكسر حاجز الخوف في نفوسنا وتخطينا عقدة الخوف على الرزق، وأول ما يأتي في أذهاننا ونحن نمتطي ذروة الهندكوش، كيف نمتطي جبل المكبر وذرى جبال الخليل وجبال نابلس، وكيف ننقل هذه الصورة المشرقة من أفغانستان الى فلسطين ان شاء الله قريبا».