وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

العراق يتعافى!

لم يكن حكم الرئيسين الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن محمد عارف في الفترة من 1963 إلى 1968، حكما بوليسيا اضطهاديا، خصوصا حكم عبد الرحمن، الذي تميز بالاعتدال والنزاهة، أو الضعف «كما يصفه السياسيون الحزبيون». مع ذلك، كان الوضع العراقي مسيطرا عليه، فلا إرهاب ولا اغتيالات ولا اعتقالات عشوائية أو كيدية، «ولا ضربات أمنية استباقية»، والمخبرون السريون كانوا وكلاء للأمن ويعدون بأرقام بسيطة، مقابل أجر بسيط، أو نكاية في البعثيين والشيوعيين، حفاظا على خيط من النهج العربي الناصري. ولم يكن أحد يخشى على أهله وحياته من سلوك الدولة ولا من حركة المجتمع، لكن استخبارات الرئيس القريبة كانت ضعيفة للغاية، والاستخبارات العسكرية، الدائرة الأهم، متآمرة!
أما الآن، «فباستثناء النواحي الإيجابية المتعلقة بتوافر المال وحرية الرأي»، فإن البلد يعاني من أمراض بسبب الدستور والتآمر والفساد والطائفية والعرقية، وبسبب مخاض 11 عاما صعبة، ولأن فلسفة الحكم مبنية على مرتكزات وأسس مشوشة ومتداخلة بين التخلف والحضارة. غير أن هذا لا يدعو إلى اليأس والإحباط أكثر من اللازم، فقد بدأت ملامح التغيير تظهر في شوارع بغداد خاصة، والعراق عموما، بلا وصفات من أحد، وبلا تدخل ووساطات خارجية، فكثير من الخارج يريد للعراق الغرق في مياهه وفوضاه ودمائه.
ملامح التغيير والتحول بدت واضحة في الاختلافات بين الكتل المتجانسة، التي تحولت إلى خلافات جدية يصعب التغلب عليها وفق الهواجس السابقة، فقد نشأ جيل سياسي جديد غير تقليدي، يسعى إلى تكوين هوية خاصة، حتى لو تضاربت توجهاته مع هوية الجمع العرقي والطائفي، فقصة الطوائف باتت مسألة ضعيفة تفتقر إلى حالة الشد المتولد من شحن ثبت أنه مبني على أوهام ساعدت الصراعات الإقليمية والحزبية في تضخيمها. وها هو العراق اليوم يشهد حالة صحية بصرف النظر عن إفرازاتها الجانبية، فلا شيء يصب في مصلحة العراق مجتمعيا أكثر من خروج الفرد عن هويته الطائفية والعرقية إلى الهوية الوطنية، بعيدا عن المسميات التي دفع بسببها العراقيون دما وشدتهم في سلاسل تعوق تطورهم الحضاري.
الآن، السياسي الشيعي ينتقد نظيره السياسي الشيعي بشدة، بطريقة تدل على حرق سريع لمراحل الشد الطائفي، وهذا ينطبق على السنة بين معاناة فعلية وتغيب كثير من ممثليهم، وفي كل يوم يمر يثبت الاستعصاء السياسي الكردي أنه جدي، ولم تعد «الاتفاقية الاستراتيجية» بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني قائمة. وعندما تكون العلاقة هكذا بين حزبين من ثلاثة أحزاب رئيسة، تصبح الاستنتاجات مفتوحة أمام المحللين المستجدين وليس لأجهزة الاستخبارات. ومن يتابع الوضع العراقي، يلاحظ أن النقد قد تحول إلى ممارسات مكاشفة لن توقفها المسكنات العرقية والطائفية، التي هددت وحدة العراق ومصيره، لولا حب الناس لبلدهم ووجود بقايا سياسيين مخلصين. وكان مفترضا من البداية توقف تبادل النقد الطائفي والعرقي بين ممثلي الشرائح، لإتاحة الفرص لجعل الحراك السياسي والإعلامي ضمن الهياكل اللونية ذاتها، وفق منطلقات وطنية وحضارية، إلا أن سنوات التغيير الأولى شهدت عمليات تشويش شديد، لم يدرك الفرد البسيط أنها تجارة سياسية مبنية على جشع وإغواء، وليست بعيدة كل البعد عن المصالح الوطنية العليا فحسب، بل عن المصلحة الطائفية والعرقية.
لقد أصبح التنافس السياسي في إقليم كردستان مبنيا على تقاسم المناصب بطريقة تستهدف قطع الطريق أمام الهيمنة الحزبية والفردية المحلية، وهو توجه جدي للغاية. وفي «البيت الشيعي»، من يعتقد أن مهمة التناغم والتنسيق بين الكتل الشيعية الثلاث ستحسم بسهولة كما حسمت سابقاتها بفضل الدور الإيراني، يجافي الصواب تماما، فكل كتلة من الكتل الثلاث تسعى إلى تمديد تحالفها خارج «البيت الشيعي المتفكك سياسيا»، وفي هذا دلالة على أهمية الحراك السياسي. أما الكتل السنية، فيبدو أن كتلة «متحدون» تتقدم على الكتل الأخرى بخيارات اختيار المرشحين والعلاقات مع الكتل الأخرى، ولا شك في أنها ستحصد أصواتا أكثر في مجالها.
إذن العراق يتعافى مجتمعيا، رغم العنف والفساد، حتى لو احتاج إلى وقت أطول لنشر الثقافة والإصلاح، وكل ما هو مطلوب زيادة الوعي الوطني والترويج له، ومجابهة القوى الظلامية فكريا، وحرمانها من إغواء الشباب، ولا وجود لوسيلة أعظم تأثيرا من الإعلام البعيد عن أنغام الطائفية والعرقية ووسائل الشد التحريضي إلى الماضي القديم، الذي لم يجنِ منه العراقيون غير التخلف والبلاء.