فوزية سلامة
TT

القوت والقات

لقاء عابر في بهو فندق بيروتي جمعني بسيدة يمنية استقبلتني بحفاوة غمرتني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، بحيث لم يداخلني شك في أنها حفاوة طيبة من قلب طيب. كما ذكرتني بنعمة الله علي. وذكرتني بأمي - رحمها الله - التي كانت تدعو فتقول: «ربنا يحبب فيكِ خلقه».
وإذا بالسيدة تدفع إلي بما كان في يدها قائلة: «هذا لوز يمني أتمني أن تقبليه مني». وأضافت أنها لو كانت تعلم أنه قدر لي ولها أن نلتقي لأهدتني بعضا من العسل اليمني والبن أيضا.
شكرتها بخجل لأني لم أكن أنتظر هدية ولا أطمع في أكثر من صدق هذه التحية الصادرة من قلب نقي.
كنت في الطريق إلى العمل لتسجيل حلقات من البرنامج التلفزيوني الذي أشارك في تقديمه. وكأن لقاء الصباح كان مقدمة لما سأكتبه اليوم لأني فوجئت بأن إحدى ضيفات البرنامج كانت سيدة يمنية أخرى، جاءت لتحدثنا عن مشكلة اجتماعية تفشت في شمال اليمن بسبب نبتة القات. فالقات أصبح يهدد تماسك الأسرة اليمنية لأن الأزواج ينفقون بسخاء على القات ويحرمون الزوجات والأطفال من ثمن الطعام أحيانا. وفي تلك الحالة تلجأ الزوجة إلى القضاء طالبة الخلع. فلا يرى القاضي سببا وجيها لطلبها. فتخزين القات أصبح موروثا ثقافيا لا يرى فيه المشرع سببا وجيها لخراب البيوت. وهذا هو ما أفزعني ربما لأن القاضي نفسه يخزن القات، والقائمون على الحكومات المتتالية في اليمن يخزنون القات. والمصيبة الأكبر هي أن قطاعا من نساء اليمن يخزن القات أيضا.
وما يسيئني في ذلك السيناريو هو ألا تسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة. فإن استخدام تعبير موروث ثقافي لوصف تخزين القات هو خدعة تهدف إلى تغليف البلاء بطبقة سكر، وتوهم السامعين بأن البلاء حلو المذاق من الخارج والداخل. فالثقافة هي تراكم طبقات من المعرفة والفكر والفن تختلط بسلوك الناس فتتوارثها الأجيال وتصبح جزءا مميزا من عطائهم الإنساني للعالم. ولكن القات بلاء مستورد ورد إلى اليمن من الحبشة إن صدق ما قالته ضيفة البرنامج. وما القات إلا نبتة لها صفات عقار الأمفيتامين الذي يتعاطاه المهووسون بالنحافة كدواء لتخفيف الوزن. فهو عقار يمنح المتعاطي قدرا عاليا من الطاقة مؤقتا ويرفع معدلات التمثيل الغذائي فيصبح المتعاطي في حالة نشاط فوق العادي فيضطر أحيانا أن يتعاطى الخمر مثل الويسكي في الوقت نفسه لكي تتراجع حالة النشاط وتعود إليه الحالة الطبيعية.
هكذا ينفق الرجل ماله ومال عياله يوميا ويجلس في حلقات رجالية مع أقران اجتمعوا على هدف القات فلا يرى القاضي في ذلك سببا لشكوى الزوجات. والمصيبة الأعظم هي أنه أينما رحل اليمني بحث عن وسيلة لاجتلاب القات إلى حيث انتهى به المطاف. ففي وسط إنجلترا جالية يمنية كبيرة ورغم مضي عقود وعقود على هجرة أهلها إلى أوروبا ما زال القات يستورد خلسة لكي يستمر مسلسل التخزين حتى في المدن البعيدة جدا عن اليمن. فأي بلاء هذا وأي خبث؟
اليمن في الوقت الحالي، رغم حضارة ضاربة في عمق التاريخ ورغم أصالته ورغم وجود عنصر يمني يهتم بالثقافة الحقة، يعد بلدا فقيرا. فكيف وصلت الأمور إلى إهمال المحاصيل كالبن واللوز اليمني الذي فهمت أنه من أجود الأنواع، بحيث وصل سعر الكيلو منه في أسواق العالم إلى مائة دولار، والعسل اليمني والخضراوات والفواكه تفضيلا للقات؟
سألت الضيفة عن الحل برأيها فقالت إن بعض الجمعيات الأهلية تسعى حاليا لأن تسن الحكومة قانونا يسمح بتداول القات مرتين في الأسبوع فقط. فأذهلني اقتراحها ربما لأنه يمكن تخمين النتيجة في أقل من الثانية. ففي اليومين المسموح فيهما ببيع وشراء القات سوف ينصب اهتمام المدمنين على شراء الكميات الكافية للأسبوع كله. وكما يقول المثل الشعبي: «كأنك يا أبو زيد لا رحت ولا جيت». ما هو الحل إذن. أتمني أن أسمع اقتراحا يريحني لأن اليمن هو جزء من قلب الأمة التي أصبحت في أمس الحاجة لإنقاذ ناجع وسريع.



عاجل فيتو أميركي ضدّ عضوية فلسطين في الأمم المتحدة