عبد الوهاب أبو زيد
كاتب وشاعر ومترجم سعودي. له مجموعتان شعريتان: «لي ما أشاء» 2008، «ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد» 2013 وكتاب مترجم، «خزانة الشعر السنسكريتي» 2012 عن مشروع كلمة.
TT

القراءة فردوسي الأرضي

ما من شيء أحب إلى العاشق من حديثه عن معشوقه، والبوح بما يكنه له ويألفه عنها ويرجوه منه. وبالنسبة لي، كانت القراءة ولا تزال عشيقة لي لا أتصور ولا أتمنى أن تخلو حياتي منها حتى آخر يوم من أيام عمري. قد أستطيع تخيل حياتي دون كتابة، أما الحياة دون قراءة فأمر ليس بوسعي وليس بمقدوري أن أتخيله.
القراءة بالنسبة لي حياة مضاعفة أضيف من خلالها تجارب وخبرات ومعارف الآخرين إلى تجاربي وخبراتي ومعارفي، وهي حياة تخضع لإرادتي واختياري، على عكس حياتي الواقعية التي لا يد لي في كثير من وجوهها، فأنا من أختار ما أقرأه، أو أخطط لقراءته على مدى يقصر أو يطول. وما من أحد يراقبني أو يحاسبني على أي تقصير قد ارتكبه حيال ذلك سوى نفسي. لا أبالغ إن قلت إن القراءة هي فردوسي الأرضي الذي أنعم فيه ما دمت حيا، ولا أستغرب حين تخيل خورخي لويس بورخس الفردوس على هيئة مكتبة لانهائية الحدود.
لا أتذكر على وجه التحديد متى كانت بدايتي الجادة مع القراءة واقتناء الكتب، ولكنني أتذكر بالتأكيد أن ما دفعني نحو عوالمها هي مكتبة والدي المنزلية التي كانت تزخر بكتب مختلفة ومن شتى صنوف المعرفة. وبطبيعة الحال كانت معظم، إن لم يكن كل تلك الكتب، تفوق مستواي العقلي في سنوات طفولتي الأولى، ولكن ذلك لم يمنعني من التطفل عليها، ومحاولة الاطلاع على ما يمكنني الخوض فيه منها. أتذكر من ذلك مثلا دواوين الشاعر اللبناني إيليا أبي ماضي «تبر وتراب» و«الجداول» و«الخمائل». لم يكن حبي خالصا للكتب حينها، فقد كان ثمة حب آخر ينازعه ويطغى عليه، وهو حبي للكرة التي كنت لا أتخيل لي مستقبلا بعيدا عنها وعن عوالمها. ولكن الأمور آلت إلى غير ما أشتهي أو أظن لأسباب ليس هنا المكان المناسب لذكرها.
لم أكتف بما في مكتبة والدي من الكتب، أو لنقل إنني شئت أن تكون لي كتبي الخاصة بي التي أختارها أنا بنفسي، والتي أستطيع فهمها واستيعاب ما فيها، وهكذا كان، وهكذا ابتدأت رحلتي مع اقتناء الكتب. وهي رحلة لا أريد لها أن تنتهي أبدا. ولا شك أن مرحلة مهمة من مراحل ومحطات رحلتي مع الكتاب تتمثل في تمكني من القراءة باللغة الإنجليزية التي كان دافعي الأساس لتعلمها هو الاطلاع على الأدب المكتوب بها أو باللغات المترجمة إليها.
أعيش محاطا بالكتب حيثما كنت وحيثما حللت: في البيت، وفي المكتب، وفي السيارة، وأحس أن الكتب هي ما يمنحني الشعور بالتوازن والاطمئنان والاستقرار الذهني والنفسي. وإن اضطررت لأي سبب قاهر للابتعاد عنها لفترة قصيرة، فسأكون حينها في أسوأ حالاتي المزاجية حتما. ولفرط ولعي بالكتب، ينتابني شعور دائم بالذنب حين أنظر إلى كتاب في مكتبتي لم أقرأه بعد، ولا أستطيع مغالبة الإحساس بالحسرة حين أكون في مكتبة تضم كما هائلا من الكتب لأنني لن أستطيع أن أقرأها كلها، أعني ما يستحق القراءة منها بالطبع.
وحتى وقت قريب كنت كائنا ورقيا مخلصا للورق ورائحة الحبر، ولكنني اكتشفت مؤخرا لذة القراءة عبر الأجهزة اللوحية، ووجدت في ذلك لذة ومتعة وجانبا عمليا كان حريا بمثلي ألا يهمله ويظل نائيا بنفسه عنه.

(*) كاتب وشاعر ومترجم سعودي. له مجموعتان شعريتان: «لي ما أشاء» 2008، «ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد» 2013 وكتاب مترجم، «خزانة الشعر السنسكريتي» 2012 عن مشروع كلمة.