حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

لا للحرية الإعلامية.. المفلوتة!

أعلم يقينا ومقدما أن هناك موجة غير خفيفة من الاعتراضات ستنغمر على محتوى هذا المقال، ولكن قد يكون الجدال والحوار الناتج عنه مفيدا.
هناك مطالب مستمرة بضرورة «تحرير» الإعلام في العالم العربي وإلغاء الرقابة ووزارة الإعلام وإطلاق الحريات «بلا حدود ولا قيود»، وذلك «أسوة» بالدول المتقدمة وأميركا وأوروبا. والمطالبون بذلك يتناسون أن الإعلام ما هو إلا جزء و«ترس» في منظومة حقوقية شديدة الدقة والتناسق بين بعضها البعض.
فالحرية الإعلامية تكون «مضمونة» ضمن مواد نابعة من دساتير ذات عبارات قانونية شديدة الوضوح والصراحة، وهي تأتي عنصرا «مكملا» يسمى في هذه الدول بالسلطة الرابعة، وذلك استكمالا وتتمة لأعمال السلطات الثلاث الأساسية في المنظومة السياسية، وهي السلطة التنفيذية التي تتمثل في رئيس البلاد أو رئيس الوزراء والحكومة، وذلك بحسب نوعية النظام السياسي المتبع، والسلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان الممثل من قطاعات مختلفة من الشعب، والسلطة الثالثة هي السلطة القضائية المعنية بتطبيق دقيق لكل الأنظمة والتشريعات والسياسات المشرعة في البلاد. وبالتالي دور السلطة الرابعة هو العين الرقيب على كل ذلك، وتكون الضامن «لحريتها» سلسلة واضحة من الأنظمة والقوانين والتشريعات التي يحميها المجتمع نفسه، باعتبار الإعلام جزءا من حماية المجتمع نفسه ضد الفساد والطغيان.
أما المطالبة «بفلتان» الساحة باسم حرية الرأي وحرية التعبير، فهي في الواقع السماح بتأجيج كل العلل والعقد والأمراض والغضب الاجتماعي على أطياف المجتمع، وتحويل الأمر إلى مرتع وتربة خصبة جدا للفتن والأزمات والعصبية. وهل هناك دليل أبلغ على صدق هذا الكلام من الفوضى العارمة الحاصلة على قنوات ووسائل الإعلام الاجتماعي اليوم في العالم العربي؟
فما يحدث فيه هو «مؤشر» مقلق جدا على حال الغضب المكبوت والرغبة الجارفة في الكذب وتصديق الإشاعات وتأليف القصص وتأليب الأقاويل في كل المواضيع، سواء أكان ذلك في أشكال مواقف سياسية أو آراء دينية أو أفكار اقتصادية أو ميول رياضية أو أهواء فنية، حتى تحولت المواقف إلى ما يشبه المعارك والحروب والاقتتال الذي لا ينقصه إلا إراقة الدماء، وإن كان الكثير من هذه الآراء «الموتورة» على المواقع الملتهبة أدى بالفعل إلى إراقة الدماء في أكثر من موقع وأكثر من موقف.
اليوم نحن في العالم العربي بحاجة إلى تنظيم وترتيب حقيقي لفكرة الحرية والتفريق بينها وبين الفوضى والخروج عن الأدب؛ فالحرية بلا سقف أخلاقي تتحول إلى همجية تعصف بالمجتمع بأكمله. وهناك اليوم «فرحة» بالكم الموجود من الفضائيات التلفزيونية على الشاشات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكم «المهول» من المواقع الإلكترونية، مع عدم إغفال العدد المفزع من صفحات مواقع «فيسبوك» وحسابات «تويتر»، ولكنها - وبشكل عام إلا ما ندر منها - تشكل «ضوضاء» و«إزعاجا»، بل في كثير من الأحيان «تلوثا» فكريا مضللا وخطيرا جدا يساهم في تفتيت المجتمع الهش أساسا. وله أيضا دور سلبي جدا في تكريس الإحباط في نفوس الناس وتأسيس نظريات المؤامرة بصورة متواصلة وتثبيت الشك والريبة في كل المؤسسات وكيانات وشخصيات البلاد والأوطان.
الوضع الآن يتطلب منظومة من التشريعات «تحمي» المجتمع وتحمي المهنة الإعلامية، فترسم بوضوح خطوط التماس، وذلك بمعرفة وتوضيح الفارق بين النقد والإهانة والتجريح، وهذا لن يتأتى إلا بقانون واضح وفعال.
المطالبة بالحرية للكلمة مطلب حق ومشروع وأساسي لنهضة المجتمعات، ولكن يجب أن يكون جزءا من مشروع متكامل؛ لأنه بوجوده وحده يكون ناقصا ويستخدم لمآرب أخرى كما هو حاصل الآن، وهذا من شأنه أن يولد كوارث وفتنا اجتماعية بوادرها كما يظهر مخيفة ومقلقة ومرعبة.
النزعة «الانتقامية» وحِدّة «الغضب والتعصب» المصاحبة لحرية الرأي في الفضاء المفتوح تجعل من المخاوف المذكورة مسألة مشروعة.
كما ذكرت في البداية هذا الرأي ليس بالضرورة أن يكون الأكثر قبولا، ولكني أستشعر أنه الأكثر مسؤولية.