سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

أكراد تركيا وسيناريوهات المستقبل

نتائج الانتخابات المحلية التركية وارتداداتها على المشهد السياسي والحزبي تتفاعل يوما بعد يوم. حزب العدالة والتنمية الفائز الأكبر يعد نفسه منذ الآن لمعركة الرئاسة في مطلع أغسطس (آب) المقبل، مؤكدا أنه هو الذي سيحدد اسم المرشح، وأن قوته الانتخابية كافية لإيصاله إلى قصر الرئاسة أيضا.
قيادات المعارضة التي نجح بعضها في الاحتماء من العاصفة حتى الساعة تعرف أنها ملزمة عاجلا أم آجلا بدفع الفاتورة أمام قواعدها وأنصارها، كما هي الحال مع حزب الشعب الجمهوري «المتهم» بأنه تحالف مع أشد خصومه السياسيين حركة فتح الله غولن الإسلامية في إطار مشروع الإطاحة برجب طيب إردوغان الذي خيب آمالهما في ذلك.
الأحزاب والقيادات الكردية في تركيا المحسوبة على المعارضة التركية أيضا بدأت هي الأخرى نقاشات حول رسائل صناديق الانتخاب الأخير في محاولة لاستخلاص الدروس والعبر، واستعدادا لمعركتين انتخابيتين تعنيانها مباشرة؛ الأولى في أواخر الصيف المقبل وهي معركة رئاسة الجمهورية، والثانية بعد عام تقريبا وهي الانتخابات البرلمانية العامة في البلاد.
الخطوة الأولى في الساحة الكردية جاءت بتعليمات وإشراف عبد الله أوجلان نفسه المسجون في «إيمرالي» منذ 15 عاما، فحدث ما كان متوقعا، وأصدرت قيادات حزب السلام والديمقراطية قرار الالتحاق بحزب الشعب الديمقراطي الكردي الذي أسس قبل أسابيع من الانتخابات، بسرعة مذهلة ومن دون الرجوع إلى القواعد وكوادر الحزبين وأخذ رأيها في هذه الخطوة. هدف التوحد تحت اللافتة الجديدة هو كما يقال توجيه رسالة إلى أكراد تركيا وأتراكها على السواء بأن الحزب الجديد يهدف للانتشار والتمركز في عموم المناطق التركية، وأنه لن يكون محصورا في مناطق الكثافة السكانية الكردية وحدها، وأن الكتلة الأساسية المستهدفة هنا هي أصوات اليسار التركي والعلويين والأقليات الأخرى في تركيا.
ما الذي تريده حقا القيادات السياسية الكردية في تركيا، وما الذي يراهن عليه مشروع التوحد هذا؟
نائب رئيس حزب الشعب الديمقراطي أرتوغرول كوركشو قال إن خيار توحيد الحزبين نقلة باتجاه تحقيق رغبة القواعد الكردية في تركيا، كما أنه سيكون خيار الشعب التركي بأكمله، لكن الحقيقة الأولى في أسباب الرجوع عن الانفصال هي فشلهما في تحقيق نتائج مرضية للشارع الكردي ولمناصريهما، وكسب ثقة الناخب الكردي نفسه الذي صوت لحزب إردوغان وبكثافة في جنوب شرقي تركيا.
إجماع سياسي على أن أوجلان الذي يولي أهمية كبيرة لتوحيد القوى الكردية والذي أعطى الضوء الأخضر لإطلاق خطوة من هذا النوع، يريد حتما أن يعزز فرص الأكراد في تركيا لناحية المساومة مع الأحزاب الكبرى، وتحديدا حزب العدالة والتنمية عشية الانتخابات الرئاسية التي يقترب موعدها في البلاد.
نظرة خاطفة على أرقام ومعطيات نتائج الانتخابات الأخيرة تساعدنا على تعزيز قناعة تقول إن تفاهما محتملا بين «العدالة والتنمية» وأكراد تركيا في الانتخابات الرئاسية المقبلة سيظهر إلى العلن، وإن اسم رجب طيب إردوغان مثلا بوصفه مرشحا للرئاسة، لن يزعجهم إطلاقا، بل على العكس من ذلك، وبناء على طريقة إدارته للعبة السياسية حتى الآن والتعهدات والالتزامات التي سيقدمها حيال مسار الملف الكردي، فإنها ستكون كافية لتنظيم وتشكيل الخارطة السياسية بأكملها في تركيا لعقد كامل مقبل على أقل تقدير.
يبدو أن التفاهم هذا بدأ يتحول إلى تنسيق بين الجانبين باتجاه إعادة تنظيم قانون الانتخابات، وزيادة عدد مقاعدهما في البرلمان الجديد الذي قد يوفر لهما النصاب اللازم لإعلان دستور تركي منتظر عطلته المعارضة أكثر من مرة، ولم تكن أصوات «العدالة والتنمية» والأصوات الكردية كافية لإقراره.
أكراد تركيا في نقلتهم الأخيرة هذه يريدون أكثر من التحرك باتجاه توسيع رقعة انتشارهم حزبيا وسياسيا خارج مناطق الكثافة السكانية الكردية أو تقديم أنفسهم حزبا سياسيا يعمل على نطاق تركيا بأكملها، وهي مسألة في غاية الصعوبة في هذه المرحلة الحرجة تحديدا. ما يريدونه أولا وأخيرا هو تمثيل القوى الكردية في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ولعب دور «الأخ الأكبر» في المشروع الكردي الإقليمي الذي سنبدأ مناقشته في السنوات القليلة المقبلة مع اتضاح المشهد في سوريا وتجاوز العقبة الإيرانية التي تستخدم لغة الترغيب والترهيب مع أكرادها حتى الساعة.
بقي أن نتابع عن قرب ما سيقوله حزب العمال الكردستاني الذي قال أكثر من مرة إنه لم يعد يريد الانتظار أكثر من ذلك في هدنة مفروضة عليه بسبب وعود وتعهدات لم تثمر شيئا على الأرض حتى الآن. هل سيكون هو الضحية التي تدفع الثمن أم القوة التي تخرج عن كل هذه التفاهمات وتطيح بجميع الحسابات والمعادلات، حتى ولو كان أوجلان أحد لاعبيها وصانعي القرار فيها؟ لكن الحديث أيضا عن ورود اسم أوجلان بين المرشحين لجائزة نوبل ليس صدفة أو بالمجان، ولن يسمح البعض بهدر هذه الفرصة التاريخية التي منحت لأكراد تركيا كي يفرطوا فيها بعد كل هذه الجهود التي تبذل منذ سنوات.
خطوة التوحد مجددا هذه ليست جديدة على القيادات والأحزاب والشارع الكردي، الذي تعود على إنزال لافتة ورفع لافتة أخرى منذ مطلع التسعينات. والقواعد الشعبية هناك تعرف أن قياداتها السياسية والحزبية يسارية الميول اشتراكية الهوى، وأن هذه الصورة لا تعكس حقيقة المشهد والتغني بشعارات الديمقراطية التي ترددها دائما.
لكن القيادات السياسية تعرف أيضا أن مشكلة أساسية ستواجهها إذا ما فشلت في إقناع قواعدها وجماهيرها التي ملت لعبة الحرب والسلم على حسابها هي. الشارع الكردي يجد صعوبة في فهم أسباب الانفصال، لكنه يجد صعوبة أكبر في فهم أسباب التراجع عنه خلال أسابيع فقط.
نتائج انتخابات مارس (آذار) الماضي في تركيا، شجعت «العدالة والتنمية» والقوى الكردية الفاعلة والمؤثرة وعلى رأسها عبد الله أوجلان طبعا، على الاستمرار في ما أقر قبل ثلاث سنوات تقريبا في التعامل مع مسار الملف الكردي. وهذا «التفاهم» يبدو أنه متفق الآن على التنسيق في انتخابات رئاسة الجمهورية ومرحلة ما بعد الانتخابات التي ستحمل جملة من المفاجآت السياسية والدستورية، التي ستفتح الطريق أمام مفاجآت أكبر في الانتخابات العامة التي تنتظرها تركيا بعد عام تقريبا.
لكن ما سيقلق أكراد تركيا أيضا الورقة السياسية الانتخابية الجديدة، التي بدأ البعض يتحدث عنها في «العدالة والتنمية» في حال فشل مشروع التعاون بين الجانبين، وهي أصوات مئات الآلاف من المهاجرين الأتراك في أوروبا وأميركا التي ستوفر لإردوغان نسبة الخمسة في المائة التي يفتش عنها بوصفها بديلا يعوض خسارة أصوات السلام الكردي المولود الجديد.
كثير من الجهد ينتظر أكراد تركيا للوصول إلى هدف ما، لكن أتراك تركيا قلقون وحذرون أيضا. آخر ما بين أيدينا من معلومات يقول إن مجموعة من الأكاديميين المختصين في القانون الدستوري من أكراد سوريا القاطنين في إقليم كردستان العراق، أعدت مسودة لما وصفوه بـ«دستور إقليم غرب كردستان» استعدادا لمرحلة ما بعد نظام بشار الأسد، وإن المسودة تستند في صياغتها إلى دساتير عدة دول فيدرالية منها كندا وبلجيكا، بالإضافة إلى مسودة مشروع دستور إقليم كردستان العراق، وإنه سيكون لهذا الإقليم رئيس وسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية.