د. محمد عبد الغفار
رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة
TT

دول مجلس التعاون وضرورة الحوار مع الذات

بعد مرور أكثر من عامين على اجتياح ثورات واضطرابات عدداً من الدول العربية في زمن أدت تحولاته إلى خلق بيئة إقليمية سريعة التغير، إذ اتسمت بالغموض والتشتت السياسي والمجتمعي، لا يزال المشهد السياسي في إقليم الخليج العربي وما جاوره مثقلاً بالأزمات على الرغم من ظهور بوادر للتواصل والتفاهم من جديد في ضوء تطورات اتفاقية دول 5 + 1 مع إيران وتداعيات الأزمة السورية، وترتيب البيت الخليجي مجدداً للمحافظة على أمن دول مجلس التعاون واستقرارها.
هذه القضايا جميعها كانت مثار اهتمام المؤتمر الثاني للأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون: رؤية من الداخل: تحديات الحاضر واستراتيجيات المستقبل، الذي انعقد في مملكة البحرين في الفترة من 23- 24 إبريل (نيسان) الحالي.
ففي ظل التحولات الإقليمية والدولية الراهنة، تبرز ثلاث قضايا يتعين على دول مجلس التعاون أن تتمعن في تأثيراتها على مستقبل هذا الكيان الإقليمي.
القضية الأولى: في زمن التحولات الكبرى تتأثر التحالفات الكبرى أيضاً وربما تبدأ بتفكك بعض أو جميع عرى الروابط التي نسجتها ضرورات زمن مختلف. وهذا ما يجري على ساحتنا الخليجية. فالسؤال كيف ستتعامل دول مجلس التعاون مع تحالفاتها العميقة التي تضغط من أجل التغيير والتحديث في مجتمعات لم تتطور كما ينبغي في بنيتها الاجتماعية، التي تتكون من طوائف وإثنيات وهويات صغيرة في نطاق الدولة الوطنية القطرية.
إن حركة التاريخ الدؤوبة ربما لا تدع مجالاً للساسة والمفكرين الاستراتيجيين للتمعن أو التبصر الهادي الرصين لمعرفة عمق التحولات الكبيرة في مجال السياسة الدولية والتطور التكنولوجي الهائل في مجال التواصل الاجتماعي وشبكات الاتصال في العالم من أدناه الى أقصاه.
ومن المعروف أن المراحل الفاصلة في تاريخ الأمم تأتي كنتيجة لمتغيرات عميقة، تعصف بركائز الوضع الراهن وتؤثر على طبيعة العلاقات بين الدول، مما يتطلب تنوعاً في التصدي أو المعالجة، ويقتضي التحلي بالحنكة السياسية وبعد النظر للسيطرة على غلواء هذه التحولات، التي لا يمكن اعتبار متغيراتها بأنها ناعمة، بل هي هوجاء مضطربة.
وفي نقطة فاصلة في التاريخ الحديث أوضح السيد مارك سايكس - الذي كان من أكثر المسؤولين في حزب المحافظين البريطاني معرفة بالشؤون التركية، والذي ارتبط اسمه باتفاقية سايكس ـ بيكو الشهيرة - في مجلس العموم البريطاني في مطلع عام 1914: «أن انهيار الامبراطورية العثمانية سيكون الخطوة الأولى لانهيار إمبراطوريتنا».
ولم تكن مقولة مارك سايكس (1879 ـ 1919) فكرة عابرة نبعت من قلق سياسي بريطاني حريص على مصالح بلده فحسب، وإنما كانت تعكس قناعة سائدة لدى تيار واسع من الساسة البريطانيين الكبار الذين سبقوه بأجيال متعاقبة، ومن بين هؤلاء: جورج كاننغ 1770 ـ 1827 ودوق ولنغتون آرثروسلي1869-1853 ، ولورد بالمرستون هينري تينبول 1784 ـ 1865، وبنجامين دزرائيلي 1852 ـ 1928، وغيرهم من الساسة الذين كانوا يعتقدون أن المحافظة على سلامة أراضي الإمبراطورية العثمانية مهمة لبريطانيا وأوروبا كحاجز جيو ـ سياسي لأمنها، لكن التغييرات الكبيرة التي طرأت إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى قد فرضت على بريطانيا أن تغير سياسة المحافظة على سلامة الأراضي العثمانية التي اتبعتها على مدى مائة عام، في مدة تقل عن مائة يوم.

والقضية الثانية: أنه في زمن تغير التحالفات تحتاج دول المجلس إلى صياغة «مفهوم استراتيجي» شامل كما تفعل الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي كل عشر سنوات. وينبغي أن تكون ركيزة هذه الاستراتيجية بناء وتطوير سياسات حقيقية للدفاع المشترك تكون قادرة على ردع التهديدات والعدوان الخارجي في إطار مظلة خليجية مستقلة واسعة لا تتبع استراتيجيات كبرى بل تتعاون معها.
ولا شك أن دول المجلس قطعت شوطاً في ترسيخ التعاون العسكري والأمني فيما بينها وفقاً لما جرى اعتماده في قمة الكويت عام 2009 وقمم أخرى وعملت على تعزيز العمل المشترك، وذلك من خلال ربط مراكز عمليات القوى الجوية والدفاع الجوي بدول المجلس، وربط القوات المسلحة لهذه الدول بشبكة اتصالات موحدة، وتعزيز قدرات الدفاع الجوي بمختلف أنظمة الدفاع الصاروخية، إضافة الى تأسيس مركز إقليمي بحري عسكري مشترك تناط به مسؤوليات متعددة تتعلق بأمن البحار، والبيئة البحرية والمرور الحر، وإنقاذ السفن، والتعامل مع الكوارث، وكل ما يتعلق بأمن الملاحة في الخليج العربي. وعلى الرغم من تلك الإنجازات فإن دول المجلس لم تتمكن حتى الآن من الاتفاق على المفهوم الاستراتيجي الذي يضع الإطار لتحقيق مفهوم القوة الموازنة والرادعة ضمن التفاعلات الإقليمية والدولية.
إن دول المجلس وشعوبها عانت من الحروب التي هزت منطقتنا في الفترة من 1980 الى عام 2003، وهو عام احتلال الولايات المتحدة للعراق، وما أدى إليه من تداعيات زعزعت أركان الاستقرار في المجتمع العراقي والمجتمعات الأخرى في المنطقة.
إن هذه الحقيقة دفعت بشعوب دول المجلس إلى التساؤل والمطالبة من حكوماتها بحماية أمنها من التهديدات الخارجية والإعداد لتحصين البنى الاجتماعية حتى لا تنفذ عبرها الأيادي الخارجية التي لا تريد الخير لشعوب المنطقة.
أما القضية الثالثة فهي هي أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية كتنظيم إقليمي متجانس في نظمه السياسية، وتمتاز مجتمعاته بالتداخل والتشابك وأواصر القربى فيما بينها، ليس لها خيار سوى أن تعاضد بعضها بعضاً. ولم يعد الانفصال أو الانسحاب من هذا الكيان ممكناً لما يترتب عليه من خسائر استراتيجية، لا تستطيع تحمل تبعاتها الدول المنضوية في هذا التنظيم الإقليمي الخليجي.
ومع أهمية الحوار مع العالم من حولنا في عصر العولمة، فإن الحوار الأهم في هذه المرحلة الفاصلة هو«الحوار مع الذات» الذي يجب أن يبدأ بدراسة وتحليل المعوقات التي تمنعنا من التقدم بهذا التنظيم الإقليمي، حتى لا نحبس كيان دول المجلس في بوتقة التعاون، وإنما العمل على الدفع بها قدماً الى ما يزيد من لحمتها وقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ولا بد أن نعالج الهواجس الساكنة في داخلنا بالحوار الصريح، وخاصة أن بعض تلك الهواجس النابعة من إرث تاريخنا الحديث والمعاصر تلقي بثقلها على حاضرنا، وتمنعنا من التقدم إلى الأمام بنظرة ثاقبة ورؤى تلمح ضرورات التغيير على أفق المستقبل في عالم مختلف.
وصدق المؤرخ المعروف إدوارد كار الذي قال «بأننا، نحن المؤرخين، ننظر إلى الماضي حتماً من خلال زمننا الحاضر، ونحاول أن نفسر لماذا وكيف قاد الماضي إلى الحاضر».
لقد أصبح الحوار مع الذات يشّكل مطلباً شعبياً في مجتمعات دول المجلس التي ترنو إلى المزيد من التقارب والتكامل، والانتقال إلى الاتحاد بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على إنشاء التنظيم الإقليمي لدول المجلس، وكذلك المحافظة على الأمن والاستقرار اللذين هما عماد التطور السياسي والتنمية المستدامة.
وعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون قد حققت إنجازات كثيرة في مختلف المجالات، إلا أنه كان بالإمكان أن تكون تلك الإنجازات أكثر عمقاً واتساعاً لبناء أسس التكامل فيما بينها، لو لم تترك تلك المشاريع بيد بيروقراطيات الدول التي تغوص في تفاصيل لا نهاية لها، بالإضافة إلى أن الإرادة السياسية لم تأت لمغالبة تشدد تلك البيروقراطيات.
* رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة