تحتاج إلى تغيير بعد انقلاب الوضع من «صفر مشكلات» إلى «مشكلات صِرف»

يُستبعد أن تقدِم الحكومة التركية، على الأقل في المستقبل القريب، على تغيير موقفها من جماعة الإخوان المسلمين عقب الانتخابات البلدية التي تحوّلت استفتاء إيجابيا على شعبية زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيس الوزراء رجب طيّب إردوغان. ذلك أن إردوغان يتماثل مع «الإخوان» في مصر إلى حد ربط مصيره بمصيرهم، وأن مرويّته الخاصة حول المواجهة مع المؤسّسة العسكرية التركية تتداخل مع معارضته الشديدة والمستمرة لـ«الانقلاب» على حكومة محمد مرسي في القاهرة وانتصاره لما يراه «شرعية صناديق الاقتراع».

ونظراً للتزامن بين حركة التمرّد التي أطاحت بحكم محمد مرسي والانتفاضة الشبابية في إسطنبول الربيع الماضي، ليس غريباً أن يكون إردوغان قد رأى تقاطعاً بين التمرّد على حكم الإخوان في مصر والانتفاضة الشبابية في ساحة تقسيم في إسطنبول، بمعنى أن تكون الانتفاضة التركية تستهدفه شخصياً.

لكن هناك الوجه الآخر لعلاقة الارتباط بالإخوان المسلمين، ألا وهو الرهان على مدّ جسور المحوّر التركي - المصري لاحتواء توسّع النفوذ الإيراني في العالم العربي، وتعويض النكسات التي أصابت الدبلوماسية التركية في سوريا والعراق. من هذه الزاوية، تحديداً، يمكن نقل المقاربة من المستوى الذاتي / الانفعالي إلى المستوى الموضوعي العقلاني لوضع الرابط الإخواني في إطاره الصحيح: سياسة «صفر مشكلات» مع الجوار الإقليمي التي رسمها الدكتور أحمد داود أوغلو «مهندس» السياسة الخارجية التركية للتعامل مع المحيط العربي بصورة خاصة.

ويظهر من تقويم سريع لنتائج هذه السياسة أنها باتت في حاجة ملحّة إلى مراجعة جذرية للوقوف على أسباب انقلاب «صفر مشكلات» إلى «مشكلات صِرف»، كما يتندر البعض في ضوء تدهور العلاقات التركية أو تعرّضها للتوتر والاضطراب مع معظم دول المنطقة، فضلا عن الجمود المخيم على العلاقات التركية الإسرائيلية. وهذا وضع يجعل «العثمانية الجديدة» مجرّد حلم ليلة صيف ما لم تُعِد السياسة التركية تموضعها... آخذة في الاعتبار المرحلة الانتقالية الفوضوية التي تهزّ المجتمعات العربية، والتحوّلات السياسية الطارئة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.

ما عاد كافياً أن تملك تركيا قاعدة اقتصادية متينة وتظهر أحيانا «نشاطية» دبلوماسية كبيرة، بل صار المطلوب لفتح آفاق جديدة للدور التركي المتراجع في المنطقة إرادة سياسية ورؤية دينامية تعالج بالعمق الصدع الشيعي - السنّي من جهة، والتركي - الكردي من جهة أخرى.

لقد طرحت الثورات العربية والتحوّلات الجيوسياسية الناتجة منها تحدّياً جديداً أمام تركيا لجهة اختبار قوتها «الناعمة» فعلاً، في حين أن حركة الاحتجاج التي عمّت المنطقة اعتبارا من 2011 تضع على المحكّ صدقية سياسة حسن الجوار والتقارب التي اختار داود أوغلو لترويجها شعار «تصفير المشكلات» مع الجيران، والتي اعتمدت وسيلة لتوثيق الروابط مع الزعماء العرب الذين كانوا هدف حركات الاحتجاج اعتبارا من نهاية عام 2010. وهذا ما يوحي بأن تركيا راهنت على «الستاتيكو» (الوضع الراهن) الإقليمي ولم تتوقع الانتفاضات العربية التي تسبّبت بأزمة نظامية شاملة في المنطقة.

ما عاد هناك أدنى شك في أن المرحلة الانتقالية التي يشهدها العالم العربي غيّرت وجه المنطقة إلى درجة جعلت مقولة «تصفير المشكلات» غير صالحة للتطبيق بعدما تجاوزتها الأحداث، ولم يعد لها ما يسندها على الأرض نتيجة التقلّبات السريعة التي تفرضها الانتفاضات وحركات الاحتجاج العربية. وقد يكون مردّ الارتباك في الأداء التركي الذي يظهر أكثر ما يظهر في الأزمة السورية إلى غياب مقاربة دينامية شاملة للمنطقة بتحوّلاتها الديمقراطية واتجاهاتها الجديدة.

* كاتب لبناني متخصّص بالشأن التركي

تاريخ النشر - Publish Date
Issue Number
12927