إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لقاء فوق السطوح مع غارسيا ماركيز

بعد رحيل هذا وذاك من المشاهير، اعتدنا أن نقرأ في صحفنا «المقابلة الأخيرة مع فلان»، أو «آخر حديث مع علان». وللسخرية من تلك الظاهرة، كتب الناقد غالي شكري، ذات يوم، ما وصفه بأنه «أول حوار مع فلان بعد الموت». هل يملك الراحل أن يكذّب المدعين؟
بالنسبة لي، لم أكن صاحبة المقابلة الأخيرة مع الروائي الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز. لكنني أجريت معه أول حديث لصحيفة عربية. وقد كان وسيطي، أي واسطتي باللغة الدارجة، للحصول على وظيفة ثابتة في مجلة واسعة الانتشار كانت تصدر من باريس. فقد نشروا المقابلة وطلبوا مني الاستمرار في العمل.
كنا في ربيع 1982، قبل حصوله على «نوبل» بأشهر قلائل، حين دعي ليكون عضوا في لجنة تحكيم مهرجان «كان» السينمائي في فرنسا. وهناك، على سطح القصر القديم للمهرجان، بعد مؤتمر صحافي لأعضاء اللجنة، تقدمت لتحية صاحب «مائة عام من العزلة» وشجعني لطفه فطلبت منه إجراء مقابلة خاصة لجريدة عراقية كنت أراسلها. ولم يتعلل بازدحام برنامجه بل أخرج من جيبه قائمة وكتب اسمي في آخرها، قائلا إن هناك 35 صحافيا قبلي طلبوا مقابلة. وفهمت أنه اعتذار مهذب والتقطت له بعض الصور ومضيت.
في الثامنة من الصباح التالي دقت صاحبة فندق «آلبير» المتواضع باب غرفتي، إذ لم يكن فيها هاتف، وقالت إن هناك مكالمة لي. وكان المتحدث هو غابرييل غارسيا ماركيز يدعوني لتناول الفطور معه، بعد ساعة، في «الكارلتون»، أفخم فنادق المدينة.
طلبت شايا غامقا وطلب صحنا من البيض المقلي، قائلا إنه سيكتفي به حتى المساء لأنه يحاول تخفيف وزنه. ثم شرح لي، كمن يبرر نزوة، أنه وجد نفسه ملزما بحضور المهرجان لأن الاشتراكيين قد فازوا بالحكم والرئيس ميتران «صديق عزيز» عليه، وكذلك وزير الثقافة جاك لانغ. وحرص على القول إن الدعوة كلفته مالا لأنه يحب الحفاظ على حياته الخاصة وقد اضطر لاستئجار شقة بعيدة يلتقي فيها بزوجته، بينما تبقى غرفته المحجوزة في الفندق عنوانا رسميا.
أخبرني، في السياق، أنه تجاوز التسلسل في قائمة الصحافيين وقدّمني عليهم لأنني من موطن «ألف ليلة وليلة»، الكتاب الذي وجده في مكتبة جده وكان أول كتاب يطالعه في حياته. «لقد بدأت منه ولم أنتهِ بعد». أما السينما فهي عشقه الثاني بعد الكتابة، وهي المهنة الوحيدة التي درسها في روما وجرّب، في البداية، أن يصبح مخرجا، وكان يرى أن السينما هي وسيلة تعبير أشمل من الأدب. ثم غير رأيه وآمن بأن الرواية هي العمل الوحيد الذي يتيح له أن يعبر عن كل ما يريد، من دون التزام بمنتج ومخرج، أي أن يتحمل المسؤولية بمفرده، يقطف النجاح أو يكابد الفشل.
قال إنه يكره الذهاب إلى دور العرض. لقد اختار أن يعيش في المكسيك. ولكي يذهب إلى السينما فإن عليه أن يدور بسيارته باحثا عن مكان للوقوف في عاصمة مزدحمة تعدادها 14 مليون نسمة (آنذاك). فإذا وجد موقفا فإن عليه أن يقف في طابور طويل لشراء التذكرة، تحت المطر غالبا، فإذا حصل على التذكرة فإنه سيجلس لمشاهدة الفيلم وراء عاشقين يتعانقان. واستدرك: «لست ضد العناق لكنهما يحجبان فسحة الرؤية أمامي فلا أستطيع متابعة الفيلم».
دهش حين أخبرته أن ترجمات رواياته تلقى رواجا بين الأدباء العرب الشباب وأن اسمه صار «موضة» المثقفين. وأبدى فرحته لأنه لم يكن يعرف شيئا عن تلك الترجمات، لكنه تساءل عن مستواها. قال إنه يحب البلاد العربية ويسعده أن تصل كتبه إلى القراء عندنا، لكن الترجمات غير القانونية تسلبه حقه كمؤلف، وهي حقوق اعتاد أن يتنازل عنها حين تصدر طبعات في بلدان فقيرة. غير أن الناشر ليس هو من يدفع حقوق المؤلف بل القارئ.
الإصغاء إليه ممتع مثل مطالعة رواياته. يأكل بنهم ويشفط القهوة ويتدفق في الكلام مثل حكواتي محترف. لا يا سيدتي، إن المقصود في «خريف البطريرك» ليس الجنرال الإسباني فرانكو بل هي صورة لكل ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في القرون الماضية. يومها كان الحاكم المتسلط جزءا من تاريخ البلد وثقافته، له جانبه الوطني بشكل ما ويحافظ على هويته المحلية. في حين أن فرانكو كان «ديكتاتورا شاحبا، فقير الألوان، من دون صبغة فولكلورية». بعد ذلك صارت الديكتاتوريات في جنوب القارة مرتبطة بالولايات المتحدة وتتلقى الدعم منها. «كان هناك ديكتاتور معروف في فنزويلا يدعى خوان دي سانتا غوميز، بقي في السلطة 36 سنة، وكافح الإمبريالية بحيث أنه أعلن الحرب على ألمانيا. وقد جاء الأسطول الألماني واحتل ميناء كراكاس».
كيف خرج الصحافي الكولومبي من قوقعته المحلية وصار أديبا عالميا؟ رد باختصار: «بالقوة والجمال». وكلما توغل الكاتب في واقع بلده وكتب عن قريته أو مدينته تفتحت أمامه آفاق العالمية. «لقد نظرت إلى ناسي ولم أنظر إلى الآخرين». مع هذا، اشتكى من صفة العالمية ومن الشهرة التي تسلبه الراحة بحيث أنه يتمنى «لو أكتب رواياتي لتنشر بعد موتي فأتخلص من مشكلاتها».