فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

رهان التنمية وسقوط الشعار!

خلال فترة من الزمن كانت بعض الأقلام الفكرية والسياسية تعتبر الخليج منجما من المعادن، غير أنه فقير ثقافيا، ومشتت معرفيا، وعرضة لقوى إمبريالية، وغارق في حالات من الاستهلاك الاقتصادي والعبث بالمال. تصاعدت تهجمات شعراء من العرب ضد الخليجيين فوصفوهم بالألفاظ غير لائقة، إلى درجة تحدث فيها عبد الله الغذامي بأن نزار قباني «آذى الخليجيين ثقافيا». ثمة محاولات جرت لشطب المنتج الخليجي وتهميشه على كافة المستويات. غير أن الرواد في الوسط الثقافي والفكري استطاعوا ضرب تلك الإرادات المعتدية على الخليج، ومن أبرزهم غازي القصيبي حين كتب عن الخليج الذي يتحدث شعرا ونثرا، وكذلك محمد جابر الأنصاري، الذي كتب ضد تلك المحاولات في كتابه: «مساءلة الهزيمة»، ليستمر الخليج فعليا في إنتاج سجاله، وتمرده، وأدبه، وشعره، بل ورؤاه الفكرية القوية.
خلال العقدين الماضيين استوعب الخليج أهم المؤتمرات الثقافية والإعلامية والاقتصادية والفكرية، حلت العواصم الخليجية ببناياتها الشاهقة، ومزجها بين خضاب التقاليد وصراعات الحداثة، ولم تصل المؤتمرات التي تقام في عواصم عربية أخرى إلى مستواها، وبينما كانت مدن مثل «القاهرة، وبيروت، وبغداد» هي موطن انطلاق السجالات، وأساس التحولات، ونقطة المؤتمرات، تحولت تلك المرحلة لتكون مدن مثل «الرياض، وأبوظبي، ودبي، والمنامة» حاضنة لأهم المؤتمرات وأكثرها جدية واستقطابا. تتحرك طاقة التأثير بين المدن تبعا للتطور الذي يشهده الخليج على المستوى الثقافي بشكل أساسي. ثمة حوارات لا مثيل لها أقيمت في البحرين مثلا، والتي قاد دفتها الراحل محمد أحمد البنكي في تلفزيون البحرين، وأسس لثقافة حوارية فذة، ومن أبرز تلك الندوات السجال بين الأنصاري وأدونيس حول العلمنة والدين والحداثة والثبات والتحول، كان نقاشا بين مجالين وفضاءين. توجت مسيرة البنكي الريادية بكتابه الببلوغرافي: «جاك دريدا عربيا».
هذه الفترة هي «زمن الخليج»، إذ نجا من موجات وخضات قريبة منه، واستطاعت قياداته أن تنأى بشعوبها عن الصراعات المستطيرة، لتعود إلى مجال التصحيح الداخلي، ومن ثم البدء في ورش لتجديد التعليم، ودفع التنمية، ونمو الاقتصاد. بقيت المسيرة باتجاه التنمية العتبة الأساسية نحو الحداثة، لتستثمر السعودية في المدن الاقتصادية بخمسمائة مليار ريال سعودي، وتجدد برامج الابتعاث، وتفتتح جامعتين، وتحجم التطرف والجماعات الإرهابية. لقد كان المناخ المضطرب من حولنا فرصة لإعادة النظر في التحصين والتغيير والتصحيح لكثير من الثغرات المهملة، على المستويات الفكرية والاقتصادية والثقافية والدينية، حيث أثرت الاضطرابات إيجابيا على الخليج، إذ انتعشت السياحة في مدنه، واستعادت بريق مؤتمراتها، وانتظمت استراتيجيات التعليم ضمن فلك الحداثة والتنمية المستديمة.
مهرجانات كبرى شهدها الخليج، من الجنادرية، إلى مؤتمرات الإعلام، وصولا إلى معارض الكتب (الرياض، أبوظبي، المنامة، الكويت، مسقط، الشارقة)، أكثر من ألف رواية خليجية، وثلاثمائة ديوان شعري، وعشرات الكتب المترجمة وجوائز تحفيزية مشجعة كجائزة الملك عبد الله للترجمة، وجوائز لتحفيز الخيال والأدب والرواية آخرها كان في الأسبوع الماضي في الإمارات، إذ تنتعش الرواية، من خلال فعالية جائزة الإمارات للرواية التي يرعاها الشيخ عبد الله بن زايد، وفازت بها فتيات إماراتيات. كل تلك الومضات في الخليج تبرهن على زمانه وهيمنته الحالية.. أعمال فكرية وعلمية أحدثت دويّا مثل ما يكتبه سعد الصويان، وسعد البازعي، وخلدون النقيب، وباقر النجار، ونعيمان عثمان، وآخرون. وفي حوار مع الشاعر السوري أدونيس، وبعد أن اعتبر الشاعرة فوزية خالد ضمن أهم ثلاث شاعرات عربيات، تحدث عن بركان الإبداع الثقافي في الخليج، معتبرا أنه المنطقة الأهم في الإنتاج حاليا وبخاصة في مجال الشعر والفكر.
التقيت المفكر اللبناني علي حرب في مدينة الإعلام بدبي، وتحدث عن أن دبي مدينة عالمية، بتعدديتها، وأنماط سكانها، وحيويتها، ونموذجها الخارق الذي خرج عن كل السياقات والأنماط والقوالب المعتادة. بالفعل إنه زمن الخليج، إذ أرى في كل محفل أو معرض للكتاب، أو مؤتمر من المؤتمرات، مستقبلا مشرقا لهذه المنطقة المختلفة في نمطها السياسي، والمتجددة في مجالها الاقتصادي، والحيوية في صعودها الاقتصادي.. إنها أرض لم تراهن على شعارات مجردة وأسماء فقاعية وأوهام مختلقة، بل على التعليم والوعي والمعرفة والتنمية، وقد حان حصادها، وتستمر الحكاية.

* كاتب وباحث سعودي