بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

رحيل زين العابدين الركابي يغيب عطاء مفكر متميز

قراء الرأي بأعداد «الشرق الأوسط» الصادرة نهار السبت، الذين يتابعون الدكتور زين العابدين الركابي، افتقدوا، السبت الماضي، مقالته الأسبوعية، والأرجح أنهم رجحوا مطالعتها على صفحات عدد اليوم، لكن قدر الله غالب ومشيئته نافذة. آخر مقالة نُشرت للكاتب الراحل يوم الخامس من أبريل (نيسان) الحالي على الصفحة المقابلة كانت تحت عنوان «(يوم الأرض).. فرصة لتجديد الوعي بقيمة (الوطن)». كما في كل مقالاته، حرص الركابي على انسجام موضوع المقالة مع أبرز التطورات السياسية، وكان منطلق مقالته الأخيرة تلك مناسبة يوم الأرض الفلسطيني، لكنها تناولت بتحليل موضوعي ما انتهت إليه مساعي جون كيري وزير الخارجية الأميركي، فانتقدت المساواة في مسؤولية الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إزاء تعثر عملية السلام.
كانت الموضوعية دائما أساس منهج زين العابدين الركابي في كتابة المقالة، وعلى الرغم من أنني لم أحظَ بالاستماع إليه متحدثا في ندوة، أو حوار إذاعي أو تلفزيوني، أو محاضرا طلابَه في جامعة الإمام محمد بن سعود، فإنه ليس صعبا تصوُّر دقة حرصه على التزام منهج موضوعي أيا كان مجال عطائه الفكري. لمست ذلك مباشرة طوال سنوات تحضير مقالاته للنشر في «الشرق الأوسط»، وخلال مناقشات موجزة أثناء تواصلنا الهاتفي كل نهار جمعة للحديث عن مقالته وما عالجته من أحداث.
التنوع في موضوع المقالة سمة مهمة حرص عليها زين العابدين الركابي كل أسبوع. صحيح أن محاججة التطرف والإرهاب بموقف فكري واضح مستند إلى النص ومعزز بأمثلة واقعية من سلوك السلف، طبع أغلب ما كتب الركابي، لكنه حرص على التعاطي مع ذلك الموضوع من جوانب عدة، لم تغفل مجالات قد لا تخطر على بال من يكتب في مناهضة الإرهاب، كما مجال البيئة، على سبيل المثال، كما في مقال له بعنوان «(يوم المياه العالمي).. والغفلة عن أصل حياتنا المادية»، بتاريخ ليس بعيد (السبت 29 مارس «آذار» الماضي)، أو تناول دور السينما في تزايد معدلات العنف والجريمة، كما في مقال له يعود إلى 16 سنة خلت (السبت 28 مارس 1998) بعنوان: «هوليوود: أضواء الأوسكار اللامعة.. وظلام الجريمة في المدرسة»، الذي حلل فيه أبعاد إقدام صبيين أميركيين على ارتكاب مذبحة بإطلاق نار عشوائي في مدرستهما. كذلك اتسم منهج مقال الركابي أيضا بالاستناد إلى أكثر كمّ متاح من الأرقام وأقوال الشخصيات المعنية بالشأن الذي يكتب عنه، ساسة أو مفكرين.
بيد أن من أهم ما ميّز مقالات المفكر الراحل، في تقديري، أن زين العابدين الركابي أولى أهمية خاصة لإعطاء صورة شفافة الوضوح في شرح النص القرآني تجاه تعامل المسلم مع أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية. لن أنسى كيف هرع أحد الزملاء الأساتذة من قسم التدقيق اللغوي إلى مكتبي، ذات مرة، وقد وضع خطا تحت كلمة «الصلاة» الواردة في جملة بمقال للركابي على النحو التالي: «النبي عيسى عليه الصلاة والسلام». حصل ذلك في بدايات عهد الزملاء بكتابات الراحل، ثم اعتادوا على أسلوبه ومنهجه. والواقع أنني منذ تسعينات القرن الماضي، تمنيت على الدكتور الركابي مرات عدة ترجمة مقالاته في شأن المنهج الإسلامي الصحيح في التعامل اليومي للمسلم مع أتباع المسيحية واليهودية، إلى اللغة الإنجليزية، لشدة الحاجة إليها زمنذاك، وقبل أن تصل حالة الغلو، التي تصدى لها الركابي دائما، إلى ما وصلت إليه الآن، لكن زهد الرجل في الشهرة كان سمة من سماته.
يصدر عدد «الشرق الأوسط» اليوم من دون مقالة زين العابدين الركابي، ولو أن صحته كانت تسمح له، فأمكنه الكتابة عشية الأربعاء، لكان كتب مقالته وسارع إلى إرسالها بعد ظهر الخميس. أقول ما سبق من واقع معرفة بالكاتب المفكر الراحل تعززت طوال سنوات عملي في «الشرق الأوسط»، إذ كان حريصا على انتظام مواعيد تسليم مقاله، وإذا توقع أي تأخير اضطراري، سارع إلى الإبلاغ عنه مسبقا. قليلون بين كتّاب الرأي (في الصحف العربية عموما، وليس في هذه الصحيفة فقط) هم الذين يتقبلون بتواضع الكبار ورحابة صدر الواثقين من قدرات أقلامهم وسعة ثقافتهم، ملاحظات محرري صفحات الرأي أو توجيهاتهم، سواء فيما يتعلق بجوانب فنيّة، كعدد كلمات المقال، أو تبسيط عبارة تبدو غامضة، وربما صعبة الفهم بالنسبة لقارئ الجريدة. واحد من أولئك القليلين، أقول باطمئنان، كان الدكتور زين العابدين الركابي، رحم الله نفسه التي بمشيئة خالقها رجعت إليه، آمنة مطمئنة.
[email protected]