فوزية سلامة
TT

همس الحياة

في منتصف القرن التاسع عشر نشأت في ولايات الغرب الأميركي الوسطية هواية ابتكرتها النساء، فكانت مجموعة منهن تلتقي في الأمسيات في بيت إحداهن حول إطار خشبي مستطيل وبيد كل منهن مربعات صغيرة من بقايا القماش المنقوش، وكانت بعض المربعات ذات دلالة عاطفية لدى صاحبتها، مثل مربع أخذته من ثوب عرس أمها مثلا، وكان أحد أهداف اللقاء أن تطلق كل امرأة ملكات الإبداع لديها والاشتراك في عمل فني جماعي، وحين يكتمل العمل يمنح كهدية لإحدى بنات البلدة اللاتي يتأهبن للزواج كجزء من جهاز العروس، فيصبح لحاف «الباتش وورك»، كما سمي بعد ذلك، جزءا من التراث الذي يورث من الأم لابنتها، ومن البنت للحفيدة أيضا.
ألهمتني هذه الفكرة لكتابة هذه السطور، وأنا أعلم تماما كم هي بعيدة عن الواقع الذي أعيشه هذه الأيام.
أنا في زيارة سريعة للقاهرة لتصريف بعض الأعمال الإدارية والقانونية التي لا يمكن تأجيلها. وحين بدأت الزيارة هالني أن يكون الإطار الزمني المحدد للزيارة في ظل طاقتي الإنسانية التي انكمشت لا يكفي لتصريف كل الأمور. وعليه، أصرّت إحدى صديقاتي التي تسكن في حي الزمالك، وهو حي قريب من كل المؤسسات التي ينبغي عليّ التعامل معها أثناء الزيارة، على أن تستضيفني بضعة أيام لكي تيسر لي الانتقال من مكان إلى مكان بلا احتياج للسفر من شمال القاهرة، حيث أقيم، إلى وسط البلد، كما يسمى هنا.
في إحدى الأمسيات كنت جالسة وحدي في الشرفة بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل. نظرت إلى العمارات المحيطة بي وتخيلت كم كانت تلك العمارات تحمل شعار الحياة الراقية في الأيام الخوالي، وما زالت تحمل رموز الفن المعماري لقاهرة الأربعينات والخمسينات. نظرت إلى أسفل فوجدت أن كل المحلات مفتوحة الأبواب، والبيع والشراء مستمران. وفوق هذا وذاك كانت في فضاء الحي همهمة متصلة لا أستطيع تسميتها إلا «همس الحياة». وخطر لي أن من يسكن هذا الشارع لا يمكن أن يشعر بالوحدة ما دام «همس الحياة» مستمرا. بعد قليل، بدأت حركة غير عادية في الشارع، حيث أخرجت على الناصية طاولات للشاي والقهوة والماء البارد ومقاعد، ثم بدأت فرقة فنانين شبان في العزف والغناء الشبابي. ولم تكن الآلات الموسيقية سوى الدق على أطراف الطاولات وضبط الإيقاع برنة الملاعق حين تطرق أطرافها العريضة بعضها البعض. والطريف أن هذا الشارع معروف بأنه شارع غاردينيا. وما غاردينيا سوى محل زهور يعد الأفضل في القاهرة من شرقها إلى غربها؛ لأنه يظل دليلا على أن بقايا من الذوق الرفيع ما زالت مختبئة في الزمالك تتأهب لإطلالة جديدة على العالم.
بعد دقائق من متابعة الحفل الغنائي قلت لنفسي: إنكِ لو نظرتِ إلى ما يجري في هذا الشارع لن يخطر لكِ أبدا أن أهل القاهرة يحملون الهموم أو يعانون أي مشكلة.
وحين دخلت إلى غرفة الاستقبال وضغطت على زر تشغيل التلفزيون كان أحد برامج التوك شو على قناة مصرية يناقش ضرورة إلغاء قانون التظاهر أو تعديله بما لا يتنافى مع مبادئ العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وهي المبادئ التي قامت عليها ثورة 25 يناير (كانون الثاني). وكالعادة، أتيحت أول فرصة للكلام لممثل الدولة الذي قال بلا تحفظ، إن الرغبة في التظاهر ما هي إلا محاولات لهدم الدولة. ولا شك أن أي إنسان بسيط يسمع أن الشباب يريدون هدم الدولة لا بد أن يلعن اليوم الذي ولد فيه أي شاب يريد المطالبة بحقوق يكفلها له دستور صاغته لجنة من خمسين فردا يفترض أنهم من أصحاب العقول الفذة والضمائر الحية والذمم التي لا يطالها تلف.
وفوجئت بمقدم البرنامج يعرض فقرة من حديث لأحد هؤلاء الجهابذة يقول فيه، إن حق التظاهر السلمي مكفول للمواطن الذي يطلب تصريحا. وتبعت تلك الفقرة فقرة أخرى نرى فيها زوجة أحد الناشطين تكتب على ورقة كبيرة «أطلقوا سراح زوجي أو حاكموه، لكن لا تبقوه في السجن بلا محاكمة ولا اتهام».
قبل أن أسكت صوت التلفزيون تساءلت: هل تستحق هذه الزوجة إلا الاحترام؟ وهل قانون التظاهر من القدسية بحيث لا يمكن إصلاح بنوده لدرء المظالم أو لتحاشيها؟
في الصباح جلست مع أم نجلاء التي تساعد صديقتي في إدارة بيتها، وسمعتها وهي تعد الطعام تقول لي: «والله، إننا لا نريد شيئا سوى أن نعيش مستورين. تصوري أن كيلو البامية سعره 24 جنيها؟ لا يهمنا من يحكم، ولكن يهمنا كيف يحكمنا. ابني يشتغل باليومية، ويوميته بعشرة جنيهات ينفق منها ثلاثة جنيهات على السيجارة. طيب نعمل إيه؟».
لم يكن عندي جواب لأم نجلاء، ولكنني تذكرت لحاف «الباتش وورك». تلك هي القاهرة مربعات ملونة مرصوصة بأيدٍ محبة، الواحد بجوار الآخر، وإذا نزعت مربعا من مكانه لا تعد له قيمة جمالية أو فنية. ولكن الأيدي التي رصتها أبدعت وجعلت أنه لا وجود ولا قيمة لمربع واحد إلا في وجود الأخرى. سكان كل مربع مكتفون، ورضاهم بالرزق القليل انعكاس لتفاؤل وإيمان بأن مصر نسيج واحد من أسوان إلى الزمالك، وأن المستقبل قد يأتي بخير، ولكن شباب مصر هم الخط الأحمر.. لا تقربوا الشباب إن أردتم استقرارا.