سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

من زود هيرش بالمعلومات؟

كلام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الأخير، حول أنه لو كانت أنقرة تبحث عن حجة تسهل لها التدخل العسكري المباشر في ملف الأزمة السورية، لكان لها ما تريد منذ البداية، خصوصا أن النظام السوري حاول استفزازها واستدراجها إلى مواجهة من هذا النوع أكثر من مرة..
ورده على محاولات البعض لعب ورقة التنصت على تفاصيل اجتماع في الخارجية التركية ومحاولة تقديم المشهد على أن هناك رغبة تركية في الدخول إلى سوريا، بالقول إن ما كان يناقش هي خيارات التعامل مع أي اعتداء يستهدف «ضريح تربة سليمان شاه» التي هي أرض تركية تحاصرها «داعش»، وليس البحث في طرق إعلان الحرب على دمشق..
ونفي نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينش لمزاعم الكاتب الأميركي سيمور هيرش حول وجود دور تركي في هجوم الغوطة الكيماوي الذي نفذ العام الماضي ضد المدنيين السوريين ووصفه أقوال هيرش بـ«الكذب من أساسه».
هي ليست مجرد ردود على كلام مشابه كرره هيرش نفسه في السابق، بل رسالة تعني واشنطن مباشرة، خصوصا أنها تأتي في أعقاب حديث للسفير الأميركي في أنقرة فرنسيس ريتشاردوني حول قلق أميركي من تحركات المنظمات الإرهابية والمتشددة في المناطق الحدودية مع سوريا، وهو كلام موجه لأنقرة حول وجود تنسيق مباشر مع هذه الجماعات يشمل تبادل المعلومات، وتقاسم الأدوار، وتقديم الخدمات، وهذا ما دفع هيرش لهذا القول ليس نقلا عن الإدارة الأميركية، بل عن مصادر استخباراتية دبلوماسية حماية للخيط الرفيع الذي يحمي مسار العلاقات التركية - الأميركية في الملف السوري..
واشنطن التي فشلت:
- في امتصاص غضب إردوغان الذي جاء في مايو (أيار) الماضي يطالبها بموقف أكثر حزما ووضوحا في التعامل مع القضية السورية، وفي تنفيذ وعودها والتزاماتها المقدمة حول التشدد والصرامة مع نظام الأسد، الذي تسبب في تدمير بلاده، ويسعى جاهدا لتوسيع رقعة الحرب ونقلها إلى دول الجوار السوري.
- وفي إزاحة رجب طيب إردوغان الذي يعاندها في أكثر من ملف أزمة داخلية وإقليمية، وفي مقدمتها الملف السوري رغم تحريك أو مساندة أكثر من قضية سياسية ومالية وأمنية ضده، سواء بدعم تحركات الشارع في الصيف الماضي خلال أحداث «جيزي بارك» في ميدان «تقسيم»، أو بالتنسيق المباشر مع جماعة فتح الله غولن خلال انفجار حادثة 17 ديسمبر (كانون الأول) الماضي في مسائل الفساد والرشى، أو بدعم مشروع إسقاطه في الانتخابات المحلية الأخيرة.. ورغم كل الدعم المعنوي الذي قدمه السفير الأميركي في أنقرة للمعارضة ومنظمات المجتمع المدني باسم الذود عن الحريات في تركيا.
- وفي التعتيم على اتصالاتها البعيدة عن الأضواء مع النظام الإيراني الجديد وأجبرت على الكشف عنها، ومد يد المصالحة العلنية والمساهمة المباشرة في منح طهران الوقت والفرص التي تحتاجها لإنجاز برنامجها النووي، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الخدمة.
- وفي إخفاء رغبتها في إطالة عمر الحرب السورية إلى أن تدمر البلاد، تماما كما حاولت أن تفعل في التعامل مع أكثر من أزمة إقليمية مشابهة، بينها التلاعب بأحلام البعض في ربيع عربي واعد، ما لبث أن حولته إلى بركان ثائر يعطيها فرصة جديدة في إعادة خلط أوراق المنطقة.
- وفي الرهان على الوعود الروسية بحل يرضيها في سوريا مقابل تجاهل التمدد الروسي في القرم وأوكرانيا، فأغضبها الوقوع في فخ أعدته هي لبوتين، الذي يبدو أنه نجح في تحييد أنقرة وإبعادها عن تفجير علاقاتها ومصالحها التجارية والحيوية معه، فتحولت إلى وليمة غداء الدب الروسي قبل أن تتعشى به.
وهي التي شجعت على تزويد سيمور هيرش بهذه المعلومات، إذا لم نشأ القول إنها هي التي قدمتها له مباشرة للانتقام من أنقرة ومن رجب طيب إردوغان تحديدا، رغم محاولات تبسيط المسألة وتقديمها على أنها تباعد في التكتيك وليس في الاستراتيجيات.
هيرش نفسه اتهم واشنطن في مطلع ديسمبر الماضي بأنها تلاعبت بمعلومات استخباراتية، وتجاهلت قدرات العناصر الجهادية في سوريا على استخدام الأسلحة الكيماوية، ثم حملت دمشق مسؤولية الهجوم. هل كان هنا ينتقد الإدارة الأميركية أم يبرر لها أسباب تراجعها عن مهاجمة نظام الأسد عسكريا بعدما قالت إن قرار تسليمه الأسلحة الكيماوية التي بحوزته هو الذي دفع باراك أوباما للتراجع عن خيار توجيه الضربة لدمشق؟ واشنطن اختارت أسلوبا آخر في التعامل مع الملف السوري، وهذا من حقها طبعا، لكن المستغرب هو تلطيها وراء ذريعة التقارب بين أنقرة والجماعات الجهادية لشن هجومها على الحكومة التركية، التي وضعت بين يدي المجتمع الدولي مئات الوثائق التي تثبت استخدام النظام السوري هذه الأسلحة الفتاكة، التي نفى الأسد امتلاكها ثم عاد وغير رأيه على مرأى ومسمع البيت الأبيض.
صدفة هي لا أكثر، أن يكون كلام دمشق وتهديداتها لأنقرة بأنها ستدفع ثمن التمسك بثعبان المنظمات الإسلامية، لإنقاذها من الغرق، لا يختلف كثيرا عن كلام واشنطن والمقربين منها حول أن تزويد وتشجيع هذه المجموعات على امتلاك السلاح الكيماوي واستخدامه، يقطع الطريق على خيارات الإدارة الأميركية في الموضوع السوري التي لم نعد نعرف عنها الكثير في هذه الآونة. وصدفة هي أيضا أن يطبل إعلام النظام وأعوانه لذبح السوريين بما وضعه هيرش بين أيديهم ليلا نهارا.
وعدتنا جماعة فتح الله غولن بحبة «الفجل الكبيرة» قريبا في مواجهتها المفتوحة مع إردوغان وحكومته.. هل تكون أقوال هيرش هي مقدمة لهذا الصوت المدوي في وجه أنقرة التي حاولت خلط أوراق اللعبة في سوريا رغما عن واشنطن معرضة مصالحها وحساباتها هناك للخطر؟
التوتر التركي - الأميركي ترجمه هيرش نيابة عن واشنطن التي تقول أيضا إن نتائج الانتخابات المحلية التركية، التي منحت إردوغان هذه الثقة والقوة الشعبية الجديدة لا تعنيها كثيرا. لكن الإدارة الأميركية تعرف أن سيناريو صعود إردوغان إلى قصر الرئاسة في شنقايا وتفعيل المادة الدستورية التي تعطيه حق تحويل شكل النظام إلى شبه رئاسي فيزيد من صلاحياته ونفوذه وإشرافه على السياستين الداخلية والخارجية، سيزيد من صعوبة إبعاد «العدالة والتنمية» عن الحكم في تركيا.