جاكسون ديل
TT

معضلة أميركا في عملية السلام

تبدو «عملية السلام» في الشرق الأوسط كأنشوطة لا حد لها من الإخفاقات الدبلوماسية التي تركت الإسرائيليين والفلسطينيين معا في صراع عنيد، بينما تتأرجح على الحافة أحدث جولات المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة.
ومما يجدر ذكره أنه على مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، حقق الشعبان تقدما بطيئا بصورة جليدية، ولكنه بشكل تراكمي تقدم هائل نحو العيش المشترك. في الواقع قطع الشعبان معظم المسافة نحو التسوية النهائية. وتنازلت أغلبية حاسمة من الإسرائيليين، إضافة إلى النخبة السياسية، عن حلم «إسرائيل الكبرى»، وقبلت بأن دولة للفلسطينيين ستقام في قطاع غزة ومعظم الضفة الغربية. ولم يكن ذلك واردا خلال التسعينات، عندما رفع وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جيمس بيكر، يديه إحباطا، ونصح الأطراف قائلا: «ادعونا عندما تصبحون جادين بشأن السلام».
وتنازل الفلسطينيون عن إنكارهم حق إسرائيل في الوجود، وتنازلت الغالبية عن تكتيكات الإرهاب والعنف التي أدت إلى إخفاق دبلوماسية إدارة كلينتون. وبعد موجات من الهجمات الانتحارية والاجتياحات العسكرية الفوضوية أصبحت إسرائيل والضفة الغربية أخيرا وحتى غزة، جزرا من الهدوء النسبي في منطقة دموية. وذهبت القوات الإسرائيلية التي كانت تجوب كل المدن الفلسطينية الرئيسة، وحل محلها في الضفة الغربية قوات أمن فلسطينية ذات كفاءة، يعمل قادتها بتنسيق وثيق مع رصفائهم الإسرائيليين، وهو تطور لم يكن متصورا أيضا من قبل.
صحيح أن المسافة لا تزال بعيدة بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين من حيث الشروط المحددة لدولة فلسطين، بما في ذلك موقع ترسيم الحدود، وكيفية التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين السابقين، وما إن كانت القدس ستقسم. ولكن عكس ادعاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري، فإنه لم يفت الوقت على تسوية الدولتين. في الواقع فإن المتشائمين الذين نادوا بهذه الحجة قبل 25 سنة مضت، مثل عالم السكان ميرون بينفينيستي، قد تكون لهم حجة أكثر قبولا. كانت إسرائيل تتوسع في بناء المستوطنات اليهودية بقوة. والآن فإن عدد المجمعات السكنية التي أضيفت في مناطق قرب حدود عام 1967 تعد على أصابع اليد الواحدة، وفي مناطق يعلم الجانبان أنها ستكون جزءا من إسرائيل. ورغم كل ما يثار من احتجاجات عرضية حول المستوطنات، فإن الدراسات الحذرة تشير إلى أن 80 في المائة من سكان المستوطنات يمكن أن يستوعبوا ضمن ضم إسرائيل لأقل من خمسة في المائة من الضفة الغربية.
ولمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقبوله مبدأ تبادل المنطقة بأرض هي جزء من إسرائيل الآن. فلماذا لا ينعكس هذا التقدم في الدبلوماسية؟ السبب بسيط، وهو أن جميع التطورات الإيجابية تقريبا في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية حدثت خارج إطار «عملية السلام». وقبل الإسرائيليون بفكرة الدولة الفلسطينية لأنهم أدركوا أن بلدهم لا يمكنه الاحتفاظ بالضفة الغربية والبقاء يهوديا وديمقراطيا. ونبذ الفلسطينيون العنف لأنه فشل في إنهاء الاحتلال، وكانت تكلفته أكثر على الفلسطينيين من الإسرائيليين. ونجح التعاون الأمني في الضفة الغربية لأن السلطات الإسرائيلية والفلسطينية تشترك في الرغبة في مكافحة المتطرفين. ولم تساعد الولايات المتحدة في دفع هذه العملية عن طريق عقد مباحثات السلام، بل عن طريق دعم القرارات الواقعية للقادة الإسرائيليين والفلسطينيين؛ إذ ساعد الرئيس السابق جورج بوش رئيس الوزراء آرييل شارون في اتخاذ قرار الانسحاب من قطاع غزة، والقيام بأول عملية تفكيك للمستوطنات في الضفة الغربية بالموافقة على مبدأ احتفاظ إسرائيل بمستوطناتها قرب حدود عام 1967، كما ساعد التدريب والتمويل اللذان وفرتهما الولايات المتحدة في تكوين قوات الأمن الفلسطينية.
وكان بإمكان إدارة أوباما المحافظة على دفع العملية بمواصلة دعم إنشاء المؤسسات الفلسطينية، بما في ذلك حكومة ديمقراطية ومقاومة للفساد، وبدفع إسرائيل لتحمل المزيد من المسؤوليات الأمنية، وإزالة العوائق التي أمام الاقتصاد الفلسطيني، ولكنها اختارت بدلا عن ذلك التمسك بعملية السلام الفاشلة دوما، وراهنت على إمكانية نجاح ذلك في التوصل لصفقة سريعة بين الزعيمين شديدي التمنع: نتنياهو ومحمود عباس. وبتحرره من ضغط واشنطن أجل محمود عباس الانتخابات الموعودة بصورة متكررة، وهو الآن في سنته العاشرة من تولي مسؤولياته. ويدفع فشل مباحثات السلام إسرائيل إلى تعليق التعاون مع السلطة الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى انهيارها.
مغزى هذه القصة أنه ليس بوسع الولايات المتحدة تحقيق تسوية في الشرق الأوسط عن طريق دبلوماسية الحرب الخاطفة، بل عليها الاستثمار بصبر في الظروف والمؤسسات التي من شأنها تحقيق الصفقة، وعدم الدعوة لمؤتمر حتى تنضج ظروفه ويكون الزعماء مستعدين. وربما يتسبب أوباما وكيري في تأخير الدولة الفلسطينية بعنادهما وعدم قبول هذا المبدأ. ولكن ما قد يحدث هو تقدم عملية السلام في نهاية المطاف من دونهما.

* خدمة «واشنطن بوست»