غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

انتخابات رئاسية حبلى بحرِّية عقيمة

ما أحلى الديمقراطية! من قال إن العرب يخشون الديمقراطية؟ ها هي الديمقراطية العربية في حالة مخاض. علائم الحمل واضحة. من العراق. إلى سوريا. فلبنان. فمصر. فالجزائر. العرب موعودون برئيس مولود. أو بالتجديد والتمديد لرئيس موجود.
تغيرت الأنظمة. وبقيت الدولة. تعرَّف العرب على الديمقراطية. مارسوا ديمقراطية الاقتراع. جاء رؤساء. وذهب رؤساء. وبقيت الديمقراطية أرقاما معلنة بلا رصيد. بلا حرية. فلا معنى للديمقراطية بلا حرية. ولا مغزى للحرية بلا ديمقراطية حقيقية في أرقامها.
الديمقراطية سكة يسير عليها قطار الحرية. جرّب العرب ممارسة الحرية بلا سكة. بلا انضباط. بلا ديمقراطية. فظلت الحرية عقيمة. لم تنجب انتفاضة الحرية استقرارا ولا أمنا ولا إنماء. فقد أنجبت الفوضى!
خطف التنظيم الديني الانتفاضة. والديمقراطية. والحرية، فسقط في الامتحان والتجربة. استعاد الشعب الحرية هنا. واستعاد النظام حريته هناك. يعد العرب أنفسهم بديمقراطية، بلا زيف أو تزوير. وبحرية منضبطة بدستور. وقانون. فلا تطغى سلطة الأمن والقوة على سلطة العدالة. ولا يطغى الحيف. والمحاباة. والفساد، على المساواة في الحقوق والواجبات.
أوقع النظام السوري الانتفاضة السورية في جُبِّ الحاكمية الغيبية. استعاد هو حرية الطائفة في القمع. فأمعن في القتل والتدمير. رقَّع مظهر العنبري «ترزي» الدساتير الدستور القديم بقماشة مهلهلة لدستور جديد، ليتمكن بشار من أن يغتصب الرئاسة للمرة الثالثة.
في لهيب الصيف المقبل، يرتسم هذا الكهل المستعجل رئيسا لسبع سنوات أخرى، ظنا في أن ربع مليون ناخب حرمهم من الحياة، سيسمحون له بالاستمتاع بأصوات 25 مليون باقين على قيد الحياة، عندئذ يكون نجله حافظ (الثاني) قد تخرج من «روضة الأطفال»، فيغدو صالحا لوراثة «روضة» رئاسةٍ طائفية تملك «شرعية» الأب العلوي والأم السنِّية.
لماذا أخفقت الانتفاضة السورية؟ لأن المدينة السورية الكبيرة (دمشق) لم تتزود بثقافة الطبقة الوسطى في الديمقراطية الغربية. لم تتعرف على قيم وفضائل التمسك بالحرية. والقانون. وعدالة المساواة. والاستعداد للدفاع عنها، والموت من أجلها. مات مائة مليون أوروبي وأميركي في الحرب العالمية الثانية، لإلحاق هزيمة ساحقة بالفاشية العنصرية الألمانية.
أيضا، الإخفاق نجم عن الانفصال بين الثورة الريفية والمدينة السورية (دمشق) المستسلمة لرشى النظام الطائفي «اللذيذة»، في زيادة المرتب كلما سقطت الليرة. وفي الإبقاء على الفساد التجاري والاقتصادي الذي ربط بين النظام العلوي والشرائح البورجوازية السنية، هذا الفساد الذي باركته وتستّرت عليه بعض المرجعيات الدينية السنية. والشيعية. والمسيحية، في مقابل ممارسة شعائرها بحرية، في مسجدها وكنيستها.
كان سهلا على النظام عسكرة الثورة الريفية، بإثارة غضبها بقصف وحشي. وقتل أبنائها وأطفالها. وتدمير قراها ومدنها الصغيرة التي بنتها بكفاح شاق مبلل بالعرق والدموع، طيلة خمسين سنة، من إهمال النظام والدولة لها.
ساهم رئيس لم تتوافر له أصلا حكمة التجربة المسؤولة، في اجتذاب الإسلام «الجهادي» إلى بلد بلا سقف وأبواب. وساهم الفراغ السياسي لدى الثورة الريفية المحلية، في تمكين حصان طروادة «الجهادي» من نفسها. وأرضها. ومالها. عندما أفاقت على الخطأ المروِّع، توزعت بين مقاتلة نظام رفضت استنجاده بإسلام شيعي أجنبي معادٍ لها وغريب عنها. واقتتال مع إسلام سني مستورد. غليظ القلب. شديد العداء لأقلية محلية مسيحية تعايشت بسلام مئات السنين، مع إسلامية محافظة، لكن غير عدائية للأقليات.
إذا عطس النظام السوري، أصيب جاره النظام اللبناني بالزكام. نخر المرض عظام النظام السوري. فخفَّ إلى نجدته من لبنان حزب الله «بأمر إلهي» من ولاية الفقيه في إيران. في هذا التمرد على شرعية الدولة والنظام في لبنان، يجد الرئيس ميشال سليمان تطاولا على كبريائه الشخصية والرئاسية لا يملك ردا عليه، أو دفعا له.
آثر الرجل الانسحاب. رفض تجديد الرئاسة. ورفض مدها وتمديدها. أي مرشح رئاسي يملك هذا النبل المتزهد والمترفع فوق فخامة المنصب الرفيع؟ ثمة من يرى في اعتزال العسكري سليمان هربا من تحمل المسؤولية.
لكن سليمان غدا أقوى في منصبه ومسؤوليته منذ أن أعلن باكرا عن تصميمه على الاعتزال، بحيث إنه لو عاد في اللحظة الأخيرة عن عناده وقبل بالتمديد أو بالتجديد بحجة استحالة العثور على «رئيس قوي» لاتهم بالمناورة وبالتالي فقد كبرياءه.
ميشال سليمان ديمقراطي منضبط. ومتوازن، في عسكريته. ورئاسته. شق طريقه، واصلا إلى منصب قيادة الجيش في ذروة العصر السوري في لبنان. من هنا، الاتهام الموجه إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية، بأنها أكثر فهما للنظام السوري، كي لا أقول إنها أكثر تعاطفا معه، بعدما تدرَّب معظم كبار الضباط اللبنانيين الحاليين، في الكليات العسكرية السورية.
في عزوف الرئيس سليمان عن التمديد أو التجديد، بات أكثر قوة وقدرة، على التحرر من أسر اللعبة الطائفية التي تحكم لبنان منذ مئات السنين. من هنا نقده الصريح لتدخل حزب الله في سوريا لدعم نظام بشار. ولعل هذه الثقة بانضباط سليمان وتوازنه هي التي حدت بالسعودية إلى تقديم دعمها المادي الكبير إلى الجيش اللبناني الذي سبق له أن رفض دعما مماثلا من إيران.
مع اقتراب موعد الامتحان الرئاسي في مايو (أيار) المقبل، تبحث الطبقة السياسية اللبنانية عن «الرئيس القوي». وفي نظري، أن لبنان بحاجة إلى «الرئيس الحكيم». من قال إن الرئيس العسكري ليس حكيما؟! كان العماد فؤاد شهاب رئيسا حكيما. وفاقه مع جمال عبد الناصر ضمن للبنان هدوءا واستقرارا، سمح لشهاب في الستينات بمنح الطبقة العاملة نظام الضمان الاجتماعي، فيما كان خصمه ريمون إده يباهي بأنه مرَّر في البرلمان قانون الشقق المفروشة الذي استفاد منه رجال البزنس.
قاطعت الطبقة السياسية السنية الرئيس العسكري إميل لحود. فقد بالغ في انحيازه للنظام السوري ولحزب الله. وقبلت بالرئيس الحكيم والمتوازن العسكري ميشال سليمان، ظل الجيش في عهد سليمان قوة أمن داخلي، أكثر مما هو جيش للدفاع عن الحدود. ولعل هذا الجيش بحاجة إلى زيادة في العدد، كي يبقى أشد متانة وتماسكا في مهامه الأمنية. وكي يبقى الجندي اللبناني المدرب جيدا أكثر ولاء للجيش منه للطائفة، بعدما انفرط عقده في الحرب الأهلية.
عسكري آخر عرف كيف يستخدم القوة لإنقاذ مصر. على المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي أن يستخدم الحكمة واللين، لتأمين الأمن والاستقرار. أدى العرب واجبهم القومي تجاه مصر في ساعة الحسم مع «الإخوان». وينتظرون من {مصر السيسي} أن تستعيد دورها القومي. في الدفاع عن عروبة المشرق والخليج.
ثلاث رئاسات «بركات». الجزائر تقول لعبد العزيز بوتفليقة: كفى. ثم تتوجه مضطرة لانتخابه مرة رابعة! لأنه لم يعرف كيف يعثر على من يخلفه. وكيف يصالح الجزائر مع المغرب.
الجزائر دولة غنية. المغرب دولة ليست في غنى الجزائر. لكنها تملك عبق تاريخ زاهٍ صنعته في أوروبا.
في لبنان، رئيس يملك عامل صحته وقواه العقلية. ثم يرفض أن يمدد ويجدد لنفسه. وفي الجزائر رئيس يتقاسم الحكم مع العسكر في غرفة واحدة ضيقة. الجزائر تعيش أزمة سكن حادة.