عيدروس عبد العزيز
صحافي سودني مقيم في لندن.. مسؤول ملحق «الحصاد» في صحيفة «الشرق الأوسط» وأحد محرري الصفحة الأولى وملف الخليج
TT

للرمال قضية سياسية

العاصفة الرملية أو ما أُطلق عليها إعلاميا، بـ"عاصفة الصحراء"، التي عبرت ذراتها مئات الأميال من شمال إفريقيا ودخلت الأجواء البريطانية، دون إذن أو تأشيرة، يحسدها الكثيرون.. لها قضية سياسية كما للبشر المهاجرين من تلك المناطق، قضية سياسية.
فالرمال المهاجرة عانت كما عانى البشر من ظلم السياسيين والسياسات الحكومية الجائرة، واستراتيجياتها التي دمرت الاقتصادات ولم تسلم منها حتى البيئة. وها هي الرمال تهجر البلاد كما هاجر ها البشر.. غير انها أكثر حظا من كثير من المهاجرين، لأنها لم تقف في طوابير الهجرة، ولم تر البوابات الالكترونية في المطارات أو أن "تغشى" صالات الجمارك، وتفادي "غلظة" موظفي "الهجرة" واسئلتهم المحرجة. ولم تحتج أيضا لتكذب للحصول على الاقامة الدائمة.
لم تحتج الرمال لركوب سفن الموت التي غاصت بالمهاجرين في أعماق البحار والمحيطات، أو انتهت بالمحظوظين منهم الى مراكز الاحتجاز في المدن الساحلية الأوروبية. فالرمال عبرت المحيطات ودخلت الى لندن، وحطت باطمئنان على أسطح المنازل والسيارات، واختلطت بتراب البلاد، التي آوتها ونصرتها، وصارت الآن جزءا من الوطن.
لم تنشغل الرمال كثيرا بالضجيج الاعلامي الكبير الذي حدث.. او التحذيرات الطبية، من التلوث، ولم تحتج لسنوات للسعي بين مكاتب وزارة الداخلية للحصول على حق المواطنة.
تفحصت ذراتها وهي ترقد على سطح سيارتي قبل أيام، شعرت بمعاناتها من وعثاء السفر. تعاطفت مع قضيتها التي ساقتها لتكبد الرحال والمجيء الى هنا في ظاهرة نادرة الحدوث شغلت الناس لأيام. تعودت ذراتها على الجفاف وحرارة الطقس، والآن عليها ان تتعود على الصقيع والبرد القارس والأمطار المتواصلة.. لكنها حتما ستكون في أمان. ولولا الحياء من نظرات الجيران الذين سارعوا لتنظيف سياراتهم، لتركتها على سطح سيارتي أكبر فترة ممكنة.. لأني أشعر ان قضيتنا واحدة.
قضية الرمال سياسية في المقام الأول، قبل أن تكون "مناخية". ماذا فعلت حكومات الجنوب من أجل مكافحة التصحر؟ ماذا فعلت من أجل وقف زحف الرمال الى المناطق الخضراء والسكنية؟ لماذا تزداد مساحة الصحراء في تلك البلدان؟! السبب الرئيس هو أنه لا توجد استراتيجية محددة لوقف التصحر وتمدد الرمال، وحتى لو وجدت فهي في أضابير كبار موظفي الدولة محكوم عليها بالمؤبد.
في السودان مثلا الذي هُجِّرت عقوله منذ منتصف السبعينات، وازدادت في السنوات الأخيرة، وانضمت اليها أخيرا الرمال، كان يملك من الاراضي القابلة للزراعة نحو 200 مليون فدان (85 مليون هكتار)، هذا قبل انفصال الجنوب، الذي قضم نحو ثلث مساحة البلاد. وفي غياب الاحصاءات في بلد لا يهتم كثيرا بلغة الأرقام، قضمت الصحراء والتصحر جزءا كبيرا من الأراضي الزراعية. ساهمت في ذلك سياسات الحكومات المتعاقبة، وأهمالها للمناطق الخضراء، فأزيلت الغابات لتتحول كموارد للاخشاب، والوقود النباتي. كما أزيلت الأحزمة الخضراء حول المدن، والتي انشأتها حكومات سابقة لوقف التصحر، وتحولت الى مناطق سكنية. تباع في بأسعار زهيدة للحلفاء والمريدين، الذين يبيعونها لأصحاب الأرض بأسعار باهظة، ما أدى الى تجريد المناطق الخضراء، ومنح تأشيرة للرمال بأن تتمدد وأن تهاجر.
صحيح أن الدول الغربية اعترفت بأنها وراء السبب الرئيس للتغيرات المناخية، أو ما يسمى بقضية "الاحتباس الحراري"، لكنها في المقابل تضع الخطط والاستراتيجيات، وتحاول قدر الامكان، التقليل من المخاطر، حتى صارت قضية المناخ، مادة تدرس في المدارس، وتشغل مساحة كبيرة في الاعلام، وتحاول الدول تشجيع مواطنيها، ماديا ومعنويا، لتفادي كل ما يضر بالبيئة. ولكن دول الجنوب تتحمل ايضا العبء. ويشير تقرير للأمم المتحدة صدر الاسبوع الماضي، الى ان أضرار التغيرات المناخية، ستشمل الجميع ولن يسلم منها أحد، اذا لم تتخذ إجراءات حاسمة لوقف تدمير البيئة.
أعرف ان الأمر سيكون صعبا لكثير من دول الجنوب.. التي عليها ان تعمل على محورين.. وهما وقف هجرة الرمال من خلال التصالح مع البيئة.. وهي قضية تحتاج لأموال وخطط.. والتصالح مع شعوبها، وهي قضية تستلزم في كثير من الأحوال زوال تلك الحكومات.. فما أعسرها من مهمة.