د. عبد الجليل الساعدي
TT

اللغة ليست برجا عاجيا؟

اللغة ليست حصنا منيعا يهلك من يقترب منه. إنها أداة للمعرفة. فهي بالتالي تحتاج إلى إثراء مستمر، خاصة أن العالم الآن أصبح ضيقا جدا يسهل التجول فيه من دون وعث سفر أو مشقة.
كما أن لثورة المعلومات الهائلة تأثيرها الذي ينبغي أن يكون إيجابيا على اللغة. لذا فإن أية لغة محتاجة إلى الاقتباس، بل وخلق كلمات جديدة.
على سبيل المثال معروف عن اللغة الإنجليزية أن قواميسها تتبنى الكلمات الجديدة التي تسود بين الناس، ويستعملها الكتاب ويتداولونها في مؤلفاتهم، عندها تغدو واقعا ملموسا لا يمكن تجاهله. وهم لا يكتفون بذلك، بل يسجلون هذه الكلمات في الطبعات المقبلة من قواميس اللغة. وهم فوق هذا لا يجدون حرجا في استعارة الكلمات والاشتقاقات من اللغات الأخرى، إذا عجزت لغتهم عن الإيفاء بها، بل إنهم لا يجدون غضاضة في صناعة كلمات جديدة من أسماء أعلام. فلكي تكون اللغة قادرة على تأدية مهمتها بجدارة، ينبغي تطعيمها بكلمات جديدة ونحت كلمات تناسب طبيعتها، واعتماد مفردات من لغات أخرى تزيدها غناء.
ونحن نرى كيف أن اللغة الإنجليزية قبلت برحابة صدر بعض الكلمات الوافدة من اللغة العربية مثل (انتفاضة) وكلمة (فتوى) التي عارضتها بشدة سيدة مثقفة على شاشة البي بي سي، يبدو أنها من عشيقات العهد الفيكتوري.
كان الدكتور الانجليزي ثوماس بودلر أول الداعين البريطانيين إلى تهذيب اللغة الانجليزية، وتنقيتها من الأساليب والعبارات المخلة بالآداب والقيم.
وقد عرف عنه انه كان يهذب الكتب ويتلف منها ما يخل بالآداب. وتطاول بودلر على عظيم الأدب الانجليزي شكسبير نفسه، فكان يقدم أعماله خالية من أية عبارات لا تنسجم والذوق العام السائد في عصر بودلر. وكان يقول إنه يقدم شكسبير للعائلة البريطانية بصفة عامة بالتزام الحياء.
لكن بودلر لم يكن يعلم هذه القفزات المذهلة التي حدثت في عصرنا الحديث هذا، ولو كان يعلم ما يجري لندم على ما فعل، ولأطلق العنان لخياله، ربما بزيادة الكلمات والعبارات المخلة بالآداب لا حذفها.
لكننا هنا لا نتحدث عن تهذيب اللغة أو ترذيلها، فهي جامعة للتهذيب والرذيلة معا. إنما يهمنا هنا هو اسم بولدر نفسه. فهذا الرجل مازال شهيرا وخلدته لغته.
فالقواميس الانجليزية مازالت تحتضن اسم هذا الأستاذ. وفيها تجد الفعل Bowdlerise الذي اشتق من اسمه.
وهناك السيد Hoover مبتكر آلة الشفط الكهربائية. فاسمه الآن يستعمل فعلا واسما.
وفي اللغة الانجليزية أمثال كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا. فالكلمة هي اختراع بشري واللغة صنعها الانسان، فهي التي ينبغي أن تطاوعه، لا أن يطاوعها هو. فنحن من يسمي الأشياء ويكنيها. والحياة في تغير دائم ومستمر. لذا فالمرء مضطر إلى استحداث كلمات جديدة وتحميل كلمات معاني أخرى في بعض الأحيان للإيفاء بمعنى معين.
لذا فإننا ملزمون بتطوير اللغة، والأخذ في الاعتبار العامل الزمني، الذي لا يستطيع التزمت والمغالاة أن يقفا حجر عثرة في طريقه.
وإن كان لزاما البحث عن مفردات جديدة إذا عجزت اللغة عن الإيفاء بها، فإن الأمر يكون أسهل وأيسر عندما يتعلق الأمر بإحياء مفردات قديمة درست. فلمَ لا يعاد استعمال هذه المفردات، إذا كانت مفردات اللغة الحديثة غير قادرة على الإيفاء بشيء من معانيها وأسمائها.
لقد دفنت كلمات في القواميس، واللغة في مسيس الحاجة إليها. وإذا كان هذا حال هذه اللغة، فانظروا ماذا يحدث للغة العبرية. إنهم يستحضرون مفردات غائلة في القدم، ويدرسونها الطلاب ويستخدمونها في وسائل الإعلام، على الرغم من أن هذه اللغة كانت في عداد اللغات الميتة التي لا يتكلم بشيء منها إلا القليلون.
إن هذه الدعوة ليست لفسح المجال للقديم، إنها دعوة للرحيل بالقديم إلى آفاق المستقبل.