د. محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)
TT

«شرطي الخليج» بين النظرية والتطبيق

دار خلال الأيام القليلة الماضية حديث حول اتفاق وشيك بين إيران والولايات المتحدة على حل الملفات العالقة، وتسوية للملف النووي الإيراني، ورفع للعقوبات المفروضة على طهران، وبالتالي يضعان حدا لقطيعة رسمية بين البلدين استمرت لما يقارب 34 عاما. ثم جاء اللقاء الثنائي بين وزيري خارجية البلدين على هامش اجتماع بين مجموعة «5+1» وإيران بشأن ملفها النووي ليرفع مدى صحة هذه المعلومات، ثم الحدث الأكبر الذي أثبت حقيقة هذا الغزل السياسي بين البلدين «اللدودين» بالاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين الإيراني حسن روحاني والأميركي باراك أوباما ليؤكد ذلك تلك التكهنات التي جرى تداولها سابقا.
مع كل هذه الأحداث المتسارعة، هل تستطيع الولايات المتحدة والغرب عموما، الاستغناء عن دول الخليج العربي وإعادة إيران شرطيا للخليج؟ يتردد هذا السؤال كثيرا والأجوبة في غالبيتها تؤمن بذلك، ولكل تفسيراته ومبرراته، ولكن على رسلكم يا من تؤمنون بهذه الإجابة، لنعد بالذاكرة إلى الوراء قليلا ونلق نظرة على الظروف التي كانت تعيشها المنطقة عندما كان البعض يطلق على إيران اسم «شرطي الخليج». كان ذلك قبل ما يقارب نصف قرن أو أقل من ذلك بقليل. كانت إيران البهلوية في أوج قوتها وعنفوان ملكها الشاب محمد رضا بهلوي، وكانت إيران آنذاك تضع حجر الأساس لبرنامجها النووي، وقد احتفلت أيضا في تلك الفترة بمرور 2500 عام على تأسيس الإمبراطورية الفارسية رغم ما خالط ذلك من أساطير بعيدة كل البعد عن التاريخ الحقيقي. في تلك الاحتفالية التي أقيمت بجوار ما يعرف بـ«مقام الملك قوروش» خطب الشاه قائلا: «نعم، نحن شرقيون ولكننا ننتمي إلى العرق الآري. ماذا يكون الشرق الأوسط هذا؟ لا أحد يستطيع أن يجدنا هنا، ولكن في آسيا، نعم! نحن آسيويون ننتمي إلى العرق الآري الذي تعتبر عقليته وفلسفته أقرب إلى الدول الأوروبية وعلى رأسها الجمهورية الفرنسية!». كان الشاه يخطط، كما يفعل قادة إيران الحاليون، لبسط نفوذه على المنطقة وعلى الخليج العربي بضفتيه الشرقية والغربية. إضافة إلى ذلك كان الشاه يحاول جاهدا بناء جزر سياحية تكون «قبلة» للسياح العرب، والخليجيين تحديدا، بدلا من توجههم إلى باريس ولندن وجنيف وغيرها. لقد أعلنها الشاه صراحة بأنه يسعى إلى جذب الأموال العربية التي تصرف على السياحة، وبدأ بمشروعه من جزيرة كيش في الخليج العربي، ولكنه ولسوء حظه، وربما سوء حظ إيران أيضا، لم ير الشاه ذلك المشروع في صورته النهائية، حيث قامت الثورة في عام 1979، وتبدد «الحلم الجميل» والمشروع الكبير.
ماذا عن الكفة الأخرى من المعادلة في ذلك الوقت؟ كانت معظم دول الخليج العربي تخطو خطواتها الأولى نحو التنمية والتعليم العام والجامعي وتشكيل الدولة الحديثة. التركيز كان آنذاك داخليا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ليس هناك مشاريع سياسية كبيرة ولا منافسة إقليمية تستطيع أن تقف ندا ومنافسا للمشروع الإيراني الشاهنشاهي. معظم الدول الخليجية كانت قد نالت استقلالها للتو عن القوى الاستعمارية، والبعض الآخر بدأ يعمل على الوحدة وتشكيل دولة تجمع الجميع وتحت راية واحدة كما فعل الراحل الشيخ زايد بن نهيان.
هذه المعادلة تغيرت تماما في الوقت الراهن. لن أتحدث هنا عن القدرات العسكرية المتقدمة والأسلحة المتطورة التي يملكها الجانب الخليجي أو تلك التي تستعرضها إيران على شاشات التلفزيون أو في المناورات العسكرية بين الفينة والأخرى، فلسنا هنا بصدد دراسة مقارنة في هذا الجانب، في الوقت الراهن. الواقع الملموس يقول إن دول الخليج العربي وبفضل قوتها الاقتصادية الهائلة وعلاقاتها الدبلوماسية مع دول العالم لم تعد تلك الدول الصغيرة المنكفئة على نفسها قبل خمسة عقود أو أقل من ذلك. تستطيع دول الخليج أن تقف بما تملكه من ثروات في وجه أي تحالف غربي - إيراني ضدها أو صفقات بين الجانبين ضد المنطقة العربية والخليجية تحديدا، وهذا أمر ليس بالمستبعد إذا ما جرى التفكير بعمق وأزيلت القشرة الخارجية المغلفة بشعارات «الموت لأميركا» و«الموت لإسرائيل» والتهديد «بنسف إسرائيل من خارطة العالم» أو الشعارات المقابلة التي تضع إيران ضمن «محور الشر» وتصفها بكثير من الأوصاف التي نعلم جميعا أنها مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي وذر للرماد في العيون العربية. نعم تستطيع دول الخليج العربي أن تقف في وجه ذلك ليس بالوضع الذي نعيشه الآن. تحتاج هذه الدول إلى الالتفاف حول بعضها البعض، ويجري تشكيل الاتحاد الخليجي الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين، ويتحول مجلس التعاون الخليجي الحالي من النظرية إلى التطبيق على الأرض، بحيث نرى سياسة خارجية واحدة ومنظومة مشتركة بين الدول الأعضاء كافة. وهذا الأمر ليس صعبا ولا مستحيلا، بل إن الإرادة السياسية والشعور بالمصير المشترك بعد تقوية الجبهة الداخلية، هو كل ما تحتاجه بالفعل.
حينها، لن تستطيع أي دولة تنصيب نفسها حامية لهذه المنطقة أو مهيمنة عليها، وستكون فكرة شرطي الخليج حقيقة بيد هذا العقد اللؤلؤي الجميل، فهل ستتحقق هذه الوحدة وهذا الاتحاد؟ القرار بيد القيادات الخليجية الحكيمة، وجميع شعوب دول الخليج تنتظر هذا القرار.