د. زياد عسلي
رئيس منظمة فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين - واشنطن
TT

الجوع: سلاح الأسد الشامل ضد اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك

ساطور الموت جوعا المسلط على رقاب اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك بسوريا لا تمسكه أيادٍ أجنبية، بل عربية، وشمَت على كفوفها رموز الممانعة وشعارات تحرير بيت المقدس. الحصار الشامل هناك مستمر منذ يوليو (تموز) 2013، قضى فيه جوعا نحو 40 مدنيا فلسطينيا ذابت أجسادهم وخوت أمعاؤهم ببطء شديد، وأتاهم الفناء ملتحفا بصمت دولي وعربي رهيب. لا يكترث العالم كثيرا إذا ما كان الموت الجماعي بطيئا وبعيدا عن أضواء الكاميرات.
يتساءل المرء: ما الفرق بين موت جماعي بأسلحة الغاز القاتل وموت جماعي آخر من الجوع المضني والمهين؟ ثم لماذا لا يقف العالم لحظة لموت هؤلاء؟ ألم تمتلئ الصحف والإذاعات ثم «ويكيبيديا» والإنترنت بأسماء المذابح والمجازر التي ذاقها الفلسطينيون عبر العقود؟ هل يذكر العالم دير ياسين، كفر قاسم، تل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، وغيرها؟ وهل يحتاج اللاجئون الفلسطينيون مزيدا من التشريد والضياع؟ أكثر من 140 ألف لاجئ فلسطيني هجر المخيم حتى الآن.
الواقع الجديد الذي لا ينبغي أن يفوت الناظر هو أن الفلسطينيين اليوم يعيشون بين مطرقة الاحتلال الإسرائيلي وسندان الحصار الأسدي وبراميله المتفجرة.. من بين مطارق وسنادين أخرى، بالطبع.
هذا الأسبوع تعرضت قافلة مساعدات إنسانية أرسلتها منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتنسيق مع منظمة الـ«أونروا» التابعة للأمم المتحدة، إلى القصف وإطلاق النار لمنعها من الوصول إلى المخيم الذي يُحاصر فيه الآن نحو 20 ألف لاجئ فلسطيني. تقول الـ«أونروا» إنها لم تتمكن من الدخول إلى المخيم منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، وتحذر من أن الأوان قد يفوت لإنقاذ الأطفال والمسنين من الموت المحقق، من دون تدخل دولي حاسم. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها قوافل المساعدات الإنسانية إلى إطلاق النار. إنه إصرار أسدي على تجويع المحاصرين حتى الموت. ليس هنالك ضرورة للهلع، فنحن نعلم أن القتل الجماعي مسألة فيها نظر.
لكن موجة الموت العاتية التي حصدت أرواح عشرات الآلاف من السوريين وشردت الملايين ودمرت البلاد تفاقمت بلا انحسار. وقد يكون إدخال التجويع حتى الموت سلاحا جديدا يستقدمه نظام بشار الأسد إلى الشرق الأوسط، بعد أن تراجع والده عن استخدامه إلى النهاية في تل الزعتر عام 1976، واستعاضت القوات المهاجمة بالرصاص والنار لتصفية أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ فلسطيني.
قوات نظام الأسد والميليشيات التابعة له تمنع دخول أي مساعدات للمحاصرين في المخيم منذ نحو سبعة أشهر. هذا يحصل مع سبق الإصرار والترصد، وفي وضح النهار، وبعلم العالم أجمع. «أشدّد على أن الواجب يقع على عاتق السلطات السورية والقوى الأخرى كي تسمح وتعمل على تسهيل فتح ممر آمن إلى المخيم»، قال المتحدث باسم الـ«أونروا» كريستوفر غينس. انبرت ألسنة المرتزقة، ممن يلبسون عباءة الممانعة والمقاومة، بإلقاء اللوم على الفلسطينيين في اليرموك، وباتهامهم بخيانة العهد والوقوف ضد الرئيس الذي حماهم وساواهم بالسوريين؛ الرئيس الذي قتل شعبه ببراميل المتفجرات والطائرات وأسلحة الدمار الشامل، جريمة الفلسطينيين أنهم لم يمنعوا المجموعات المسلحة من دخول المخيم منذ بداية العام الماضي وتحدي النظام. والعقاب هو الدك بالصواريخ والبراميل المتفجرة والحصار المحكم حتى الموت.
ليس الطعام والدواء وحدهما الناقص في اليرموك بل التغطية الإعلامية أيضا. الصحافة الغربية والعربية اختارت أن تغض الطرف عن تغطية هذه الجريمة التي قد تكون عدّتها هامشية في خضم مصائب سوريا، ولحق ذلك سكوت دولي مقلق. وأثار هجوم الغاز القاتل موجة اهتمام دولية أدت إلى اتفاق سحب الأسلحة الكيماوية لدى نظام الأسد. ولكن من يريد أن يطلع على الأدلة الدامغة إثباتا لهذه الجريمة فما عليه إلا أن يفتح صفحات «فيس بوك» و«تويتر» الحبلى بصور وشهادات لاجئين من داخل المخيم. ترى على وجوههم البؤس والنحول والمرض واليأس... كأنها لقطات مقتبسة من فيلم رعب هوليوودي، مخرجه الأسد وأبطاله يموتون فعلا من الجوع.
وكان التلويح بالضربة الأميركية والتدخل الدولي السبب الوحيد الذي دفع بالأسد للرضوخ إلى المطلب الدولي بنزع أسلحته الكيماوية. أليس التهديد بموت الآلاف بالجوع وانعدام الدواء سلاح دمار شامل؟ ألا يستحق موقفا صارما تدافع فيه البشرية على ما تبقى من إنسانيتها؟
لم يحرّك العالم الصامت صراخ الأمم المتحدة على لسان مفوض الـ«أونرو» العام فيليبو غراندي الذي قال أخيرا: «إننا غير قادرين على مساعدة أولئك المحاصرين. إذا لم تجرِ معالجة هذا الوضع بصورة عاجلة، فإنه قد يكون من المتأخر جدا إنقاذ حياة الآلاف من الناس، بمن فيهم الأطفال».
في منتصف التسعينات، أدى العجز الدولي عن حماية المدنيين في البوسنة إلى مقتل نحو ثمانية آلاف مدني في مجزرة سربرنيتشا، وفي عام 2012 استشعر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون خطر تكرار نفس السيناريو في سوريا لتوفر أسبابها، قائلا: «لا أريد أن أرى أيا ممن سيأتون بعدي وهم يزورون سوريا بعد 20 عاما، ويعتذرون عن عدم فعل ما كان يمكن فعله الآن لحماية المدنيين في سوريا». فهل سيضع العالم حدا لهذه المأساة الفاضحة؟ أم هل سينتظر إلى أن يقضي حصار الأسد على آلاف الفلسطينيين في مخيم اليرموك كي نضع أكاليل الزهور على قبورهم فيما بعد؟
هل نطأطئ رؤوسنا خجلا ونتمتم: على اليرموك قف واقرأ السلام؟
* رئيس منظمة فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين - واشنطن