تشكيل حكومة وفاقية لا يعني تمكنها من ممارسة الحكم فعليا

أي حكومة لن تكون قادرة على حكم لبنان في ظل سيادة الميليشيات. وما شهدته الأسابيع الماضية من انفراج على صعيد تشكيل الحكومة بين قوى «8 آذار» و«14 آذار» جاء نتيجة تفاهم أطراف إقليمية في أعقاب اتفاق بين أحدهما والولايات المتحدة. لكن هذه الحكومة الائتلافية، وقدومها المفاجئ وغير المبرر وفقا لمنطقي «8 آذار» و«14 آذار» وحججهما، توفر فرصة للنظر إلى ما آل إليه الصراع المتواصل منذ ثماني سنوات بلا ملل ولا كلل، وبمال إقليمي كثير، وبدماء كثيرة. لذا، فالدعوة مفتوحة للتأمل في عنصرين أساسيين في الصراع: أولا، في الأطراف وحججها وعلاقاتها ببعضها بعضا. وثانيا، في أسباب ديمومة الصراع، وهو المرشح للاستمرار عشرات السنوات، وبوجوه عدة.
في المقام الأول، تبرز بعد تسع سنوات على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، مجموعة تساؤلات حيال الأسباب والحجج المعلنة لصراع «8 آذار» و«14 آذار». في جانب حزب الله، فإن التواطؤ، على الأقل، مع الاغتيالات والمشاركة في القتال علنا في سوريا إلى جانب النظام، ومواجهته مع حركة حماس، والاتفاق الأميركي - الإيراني، جميعها كافية لدحض ادعاءاته وكشف ضعف مواقفه. هل من يقاتل إسرائيل يحاصر مخيم اليرموك ويجوع فلسطينييه؟
على المقلب الآخر، منطق أن السلاح والولاء لإيران وسوريا مانعان لقيام دولة حقيقية في لبنان، سليم وصحيح. لكن ماذا عن «تطهير» منطقة طريق الجديدة من خصوم «المستقبل» بقوة السلاح في معارك دامية غرب بيروت؟ وماذا عن تبني «المستقبل» مسلحي طرابلس وقادة محاورها بأنهم «أبناؤنا»؟ حرب «7 مايو/ أيار» التي شنها حزب الله ضد خصومه لإخضاعهم بالسلاح بعد سنوات من مراكمة التوتر، أظهرت بالفعل ضعف إمكانات «المستقبل» واستعداداته عسكريا، رغم وقوع معارك لساعات استخدم فيها الأخير أسلحة رشاشة ومتوسطة (رأس النبع مثالا). كما وقعت معارك أشرس مع مسلحي «الحزب التقدمي الاشتراكي» استخدمت فيها أسلحة ثقيلة، وسقط فيها قتلى للجانبين. وتبين حينها أن الميليشيات لم تفكك بعد الحرب، بل تحولت إلى ما يشبه «الشبكات النائمة» تصحو عندما يتطلب الأمر.
وهناك لكل الأطراف قواسم مشتركة. هم، ما عدا تيار «المستقبل» وبعض المستقلين، قادة ميليشيات الحرب الأهلية المشمولة بقانون العفو عام 1991 (يضاف إليه قانون عام 2005 لإخراج قائد «القوات اللبنانية» من السجن بعد إدانته بقتل خصمه اللدود داني شمعون وزوجته وطفليهما طارق وجوليان). كان وليد جنبلاط، أحد أركان «14 آذار»، قبل انقلابه عليها، زعيم ميليشيا «الاشتراكي»، ورئيس مجلس النواب نبيه بري ترأس حركة «أمل»، وقاد ميشال عون «حرب التحرير» ضد النظام السوري، حليفه الحالي. هم خصوم حاليون وسابقون، مع تبدل الولاءات الخارجية طبعا، لكنهم شركاء في حرب أودت بحياة 200 ألف لبناني، وتركت 17 ألفا مفقودين.
وأعضاء الفريقين يتشاركون بصفة أساسية، في أنهم زعماء أبديون وراثيون لا ديمقراطيون في أحزابهم وطوائفهم، ويعملون بشتى الوسائل لخنق أي منافسة بالمال والسلاح والإعلام والتهديد والاغتيال. يسيطرون على الإعلام ومرافق الدولة، ويوزعون وظائف الدولة وخدماتها هبات انتخابية ولشراء الولاءات، ويهيمنون على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بالملكية أو التمويل. مفهومهم الوحيد للديمقراطية هو تقاسم الحصص في ما بينهم.. إما بعد إعادة انتخابهم أو تمديدهم لأنفسهم، والأمران سيان. فالانتخابات في لبنان غالبا بلا منافسة داخل الطوائف.
أن يستمر الصراع بين «8 آذار» و«14 آذار» لما لا نهاية، يطرح تساؤلات بنيوية. هنا طبعا تبرز دراسة معروفة شملت عشرات الحروب الأهلية، وأجراها بول كوليير وأنك هوفلر، توصلا فيها إلى أن الجشع العامل الأبرز في ديمومة الصراعات. والاقتصاد اللبناني لم يتوقف عن النمو في أوج الأزمات والحروب، أي بين عامي 2005 و2009، وشهد في العام الأخير إنفاقا خلال الانتخابات من الفريقين بلغ مليار دولار أميركي، وفقا لتقرير لـ«بي بي سي». قبل عام من ذلك، أنفقت حملتا المنافسين على الرئاسة الأميركية باراك أوباما وجون ماكين المبلغ ذاته تقريبا. ولو أخذنا الفارق الهائل في عدد السكان في الاعتبار، فإن لبنان أنفق 80 ضعف ما أنفقته الولايات المتحدة. مع مثل هذا المال، لماذا ينتهي الصراع، وتذبح الدجاجة التي تبيض ذهبا؟
الإنفاق وحده لا يكفي إن لم يكن مقترنا بشواهد في السلوك، وهو ما أظهرته بوضوح وثائق «ويكيليكس» عن أفرقاء «14 آذار»، والصلة الواضحة لحزب الله وحلفائه بالتمويل الإيراني. وأعيان الفريقين ازدادوا ثراء وبشكل كبير خلال الأزمة، وتحديدا من الطفرة العقارية التي لم تحل خصوماتهم دون أن يتشاركوا أرباحها. ونال إعلاميو الطرفين حصة من الطفرة، فباتت أنماط حياتهم أكثر بذخا من كبار صحافيي العالم الغربي، كما لاحظ مراسل بريطاني مقيم في بيروت.
وما سبق لا يلغي أن هناك طرفا متهما بشكل رئيس بدعم الاغتيال السياسي حينا وبتنفيذه حينا آخر، ألا وهو حزب الله. لكنه يفسر انسحاب مئات آلاف المواطنين اللبنانيين من ساحة الشهداء منذ عام 2005، وجمود الواقع السياسي في لبنان، واحتمال استمرار الصراع لما لا نهاية.
لذا، فلن تقدر حكومة وحدة وطنية على حكم لبنان، لكن الأمل كل الأمل أن تضع حدا للقتل المتجول بيننا.
* صحافي وكاتب لبناني

تاريخ النشر - Publish Date
Issue Number
12837