.. وكانت الجماعات المتشدّدة المعادية للتقدّم في طليعة المستفيدين منها..

باسم الدين، لا تتورّع الأحزاب الإسلامية المتشددة عن محاولة إلغاء الآخر في سعيها للحصول والإبقاء على السلطة، وشأن الإسلام السياسي في ذلك شأن اليمين المسيحي المتشدد أو الأحزاب اليهودية المتشددة. ولأن معتقدات أتباع مثل هذه الأحزاب عادة ما تكون خليطا بين الدين والدنيا، فإن علاقتها بالتقنية تكون عادة مثيرة للجدل، فكل ابتكار هو «بدعة» محتملة، وكل «بدعة حرام»... إلا إذا ما ثبت أنها يمكن أن تفيد في بسط نفوذهم السياسي، فعندها ينقلب الحرام حلالا.
الإعلام، بحكم كونه مرفقا عاما، ليس ببعيد إطلاقا عن هذا السياق، خصوصا، في ظل التطوّرات التي شهدها تقنيا خلال العقود الأخيرة.
ولمن لا يتذكّر، فقد كان الإسلاميون أشدّ أعداء الفضائيات لدى انطلاقتها في التسعينات، فحرّموا مشاهدتها وكفروا مُلاّكها، ولكن حالهم تبدل اليوم من السعي لمنع الصحون اللاقطة وتحطيمها إلى امتلاك قنوات وشبكات تلفزيونية خاصة بهم، تبث أفكارهم وتحرّض على أعدائهم وتهدر الدماء دون رقيب أو حسيب.
رأينا الأمر نفسه يتكرّر في ظل انتشار الإنترنت، التي عاداها الإسلاميون المتشدّدون أشد عداء، وحذّروا من كونها «وسيلة لهتك الأعراض ونشر المحرّمات»، لكنهم سرعان ما تعايشوا مع الأمر وسخّروا التقنية مجددا لخدمتهم، فبرعوا في بث الكراهية والترويج لأفكارهم المتشدّدة عبر ما كان يسمى في بداية الألفية الثالثة بـ«المُنتديات الإلكترونية».
ومع التطوّر الحاصل بفضل تقنية «البرودباند» وتوافر الإنترنت على الأجهزة المحمولة، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، لم يكن مستغربا أن تسارع الجماعات الإسلامية إلى الاستفادة من هذه التغيّرات، خصوصا بعد ما أثبتته مواقع مثل «تويتر» و«فيس بوك» و«يوتيوب» من قدرة على التأثير خلال ثورات «الربيع العربي» عام 2011.
وبما أننا أتينا على ذكر «الربيع العربي»، فلا بد لنا أن نتذكّر على سبيل المثال أن «ثورة 25 يناير» في مصر لم تكن ثورة إسلامية، وأن الإخوان المسلمين ما كانوا هم من قادها، أو هيّأ لها أو مكّنها من النجاح. ولا بد لنا أن نتذكر كذلك، كيف سارع المعلّقون والمحللون السياسيون بعد فترة قصيرة من تلك الثورة إلى الحديث حول كيف استطاع الإخوان اختطافها وتسخيرها من أجل الوصول إلى السلطة، وهو ما حصل فعلا إلى أن تمكّنت ثورة أخرى من إنهاء حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي بعد أقل من سنة على توليه سدة الرئاسة.
وفي الواقع، فإن الإخوان «اختطفوا» الثورة بمنصاتها الإلكترونية. فعلى سبيل المثال، لوحظ خفوت نجم صفحة «كلنا خالد سعيد» التي أنشأها وائل غنيم والتي كان لها دور محوَري في «ثورة 25 يناير» لصالح الصفحات والمواقع الإخوانية. ولوحظ كم كان الإخوان نشطين إلكترونيا إبان حكمهم، مع الإشارة بشكل خاص إلى تركيزهم في التواصل باللغة الإنجليزية تحديدا عبر موقع «إخوان ويب» الإنجليزي وحسابه على «تويتر» الذي لديه حاليا أكثر من 114 ألف متابع.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن الإخوان المسلمين يملكون مجموعة منصّات متكاملة تتضمن موقعهم العربي «إخوان أون لاين»، وموقع فيديو يسمى «إخوان تيوب»، وموقع «ويكيبيديا الإخوان» الذي يتضمّن التاريخ الرسمي للجماعة، وموقع لـ«إخوانوفوبيا» وشعاره باللغة الإنجليزية why do they hate us? (لماذا يكرهوننا) بالإضافة إلى موقع «إخوان بوك» وهو محاولة لتكوين شبكة تواصل اجتماعي خاصة بأنصار الجماعة.
وبطبيعة الحال، لم ينحسر نشاط الإخوان إلكترونيا بعد سقوط حكمهم، وما علينا سوى أن نراقب عدد المستخدمين الذين جعلوا من شعار «رابعة» صورة لحساباتهم على «فيس بوك» و«تويتر» لندرك مدى قدرة الإسلام السياسي على تسخير التقنية للترويج لأهدافه.
في المقابل، بالإمكان القول بكل تأكيد بأن شبكات التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، وأنها في الوقت نفسه كانت وسيلة لكشف زيف هذه الأحزاب وتفكيك الخطاب المتديّن الذي لا يتورّع عن استغلال الإسلام لتحقيق مطامعه. وربما هذا صحيح إلى حد ما، إلا أن المعركة - إن صحّ الوصف - بطبيعة الحال غير متكافئة. ففي حين تتميّز الجماعات الإسلامية بكونها منظّمة، فإن هذا لا ينطبق على الليبراليين العرب - إذا ما اعتبرنا أنهم هم من يشكّل الجهة المضادة - كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخدمة الإسلام السياسي يحمل طابعا «جهاديا» في الغالب، وهو ما يشكل حافزا من الصعب أن ينافسه أي حزب «دنيوي».
وفي هذا السياق، تبرز تصريحات لبرايان جينكينز، المستشار لدى «راند كوروبريشن»، وهي مؤسسة فكرية لا ربحية تقدّم الدراسات والأبحاث للجيش الأميركي، الذي اعتبر في شهادة أدلاها أمام لجنة الأمن القومي في الكونغرس عام 2011 أن تنظيم القاعدة كان «سباقا في استغلال الإنترنت». وتابع: «يرى تنظيم القاعدة نفسه تنظيما دوليا. وبالتالي، يعتمد على شبكة اتصالات دولية للوصول إلى أتباعه المفترضين. وهو يرى أن مهمته لا تنحصر في إرهاب العدو فحسب، بل إيقاظ المجتمع الإسلامي أيضا، ويرى قادة هذا التنظيم أن الاتصال هو 90 في المائة من المعركة».
إنه لأمر سريالي بكل تأكيد أن يكون أعداء التطوّر، مثل هذه الجماعات الإرهابية، أكثر المستفيدين من التقنيات الحديثة. ولا بد لنا من إدراك حقيقة هذا الأمر وأبعاده ومواجهته كي لا نسمح بأن يستمرّ ما سبق أن حذّر منه الصحافي العربي البارز عثمان العمير دوما.. وهو أن يُسخر «التقدّم في خدمة التخلف».
*رئيس تحرير موقع قناة «العربية» الإنجليزي، ومحرّر ملحق الإعلام سابقا في صحيفة «الشرق الأوسط»

تاريخ النشر - Publish Date
Issue Number
12823