حدثت تغيرّات كبرى من أبرزها التحوّل في الدور الأميركي

منذ تحوّل دول الخليج إلى مركز عالمي لإمدادات الطاقة وثمة حالة من الاضطراب تلازم المنطقة، سواء كان ذلك بفعل قوى إقليمية أو بفعل قوى دولية أو نتيجة لتعارض مصالح القوى الدولية مع مصالح القوى الإقليمية في المنطقة. وأسباب ذلك أن عوامل الاضطراب أو الأسباب الدافعة لها في المنطقة تتجدّد دوريًّا، إذ لا تكاد تنتهي أزمة إلا وتتولد أخرى. وحقًّا شهدت المنطقة خلال أقل من ثلاثة عقود ثلاثة حروب، أي بمعدل حرب واحدة كل عقد من الزمان تقريبًا، هي الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988)، وحرب الخليج الثانية (1991) التي استمرت تداعياتها حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين واتصلت بالحرب الأميركية على العراق في مارس (آذار) 2003.
وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على قيام مجلس التعاون فإن الأمن الخليجي يتعرّض اليوم إلى تحدّيات بنيويّة وفكرية غير مسبوقة، وذلك لجملة من الأسباب، أهمها أن مستوى انخراط دول المجلس في منظومة أمنية مشتركة لم يتطوّر إلى الدرجة التي تستجيب للمخاطر والتهديدات التي تواجه المنطقة، كما أنه خلال تلك الفترة حدثت مجموعة من المتغيرات الاستراتيجية والسياسية في الموازين الإقليمية والدولية على حد سواء، ما يزيد من جدية تلك التحديات على واقع دول المنطقة ومستقبلها.
أول المتغيرّات الاستراتيجية التي جرت على مستوى الفاعلين الأساسيين في أمن المنطقة هو التحوّل الكبير في طريقة تعاطي الإدارة الأميركية الحالية مع أمن المنطقة. فسياسة إدارة باراك أوباما اختلفت جذريًّا في المنطقة عن سياسة الرئيسين الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب (1980 - 1992) التي كانت تقوم على تحالف مطلق مع دول المنطقة، واعتبارها منطقة صديقة للغرب محرّمة على المطامع السوفياتية، ومحمية من تهديد قد تتعرّض له من الدولتين الإقليميتين إيران والعراق. ولقد ترجمت سياسة ريغان - بوش الأب بصفقات الأسلحة النوعية لدول المنطقة كصفقة طائرات «الأواكس» السعودية، وتزويد الكويت بطائرات «إف 18» المتطوّرة خلال الثمانينات. كذلك تجلّى مستوى الحماية الأميركية للمنطقة من الخطر الإقليمي في موقف واشنطن الحاسم والقوي من قضية احتلال العراق للكويت، إذ شنت الولايات المتحدة حربًا كبرى ضد القوات العراقية وتمكنت من إلحاق الهزيمة بها وتحرير الكويت. ولقد كان لحرب تحرير الكويت 1991 تأثيرات عميقة على منظومة الأمن الخليجي، إذ أدت إلى تغييب دور العراق كموازن إقليمي تقليدي في مواجهة إيران، وأصبح الدور الأميركي في المنطقة يشمل وظيفتي الردع والموازن الإقليمي في مواجهة إيران.
من جهة أخرى، تحوّل اعتماد دول المجلس على تلك الحماية إلى ما يمكن تسميته «الأمن المستورد» من خلال الاتفاقيات الأمنية التي أبرمتها دول المجلس مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وما نتج عن تلك الاتفاقيات من إنشاء قواعد عسكرية أميركية ثابتة ومتحركة في المنطقة استخدمت عامل ردع رئيسًا بالنسبة لدول الخليج في مواجهة إيران. واستمرت هذه المنظومة خلال عهد الرئيس بيل كلينتون (1992 - 2000) حتى الغزو الأميركي للعراق الذي قاده الرئيس جورج بوش الابن عام 2003، والذي أدى إلى إسقاط نظام صدام حسين وسقوط العراق بأكمله لاحقًا في دائرة النفوذ الإيراني.
ومن ثَم، مثلما كانت لحرب تحرير الكويت تأثيرات عميقة على المنطقة، كان لاحتلال العراق تأثيرات أعمق على جميع المستويات، إذ مثّل الغزو الأميركي للعراق ذروة التدخّل الأميركي في تفاصيل تلك المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ، ومع فداحة الخسائر الأميركية البشرية والاقتصادية في العراق، بدأت تتشكّل وتتحدّد معالم تراجع الاهتمام الأميركي عن قضايا المنطقة.
ثم مع أزمة الانهيار المالي 2008 - 2009 تسارع انتشار تيار مؤثر في دواليب صناعة القرار الأميركي ينبذ استخدام القوة العسكرية في حلّ النزاعات، ويحذّر من مخاطرها المدمّرة على الاقتصاد الأميركي. وتجلّت هيمنة هذا التيار في تفاصيل التعامل مع الأزمة السورية وفي أزمة الملف النووي الإيراني. ذلك أنه عندما كسر بشار الأسد «خط أوباما الأحمر» واستعمل السلاح الكيماوي ضد شعبه خلال سبتمبر (أيلول) 2013، أحال باراك أوباما خطة توجيه الضربة العسكرية إلى الكونغرس... فجاءت المعارضة لتوجيه الضربة من النواب الجمهوريين قبل الديمقراطيين، ما يدحض فرضية أن الجمهوريين مؤيدون تلقائيًّا لاستخدام القوة العسكرية، ويؤكد أن معارضة التدخل العسكري باتت فكرة تتشارك فيها غالبية الأميركيين.
أما في أزمة الملف النووي الإيراني فكان الرهان الخليجي قائمًا على استمرار حالة العداء بين إيران من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، وبقاء احتمالات توجيه ضربة عسكرية ضد إيران قائمة. ولم تضع دول المجلس أي بدائل محتملة لرهان آخر يوحي بتأهبها للمرحلة التي قد يتراجع فيها الاهتمام الأميركي بشؤون المنطقة، أو تتبدّل فيها أولويات سياسة واشنطن على النحو الذي بدأت ملامحه تتجسّد عقب اتفاق جنيف النووي مع إيران. هذه التراجعات في السياسة الأميركية رافقها تقدّم في رصيد القوة الإيرانية، فـ«إيران اليوم» ليست «إيران الثمانينات» المعزولة والمحاصرة التي تعيش حربًا ضروسًا تهدد بقاءها. «إيران اليوم» تسيطر على العراق الكبير بثرواته وتمتلك القرار السوري ولا يزال حليفها بشار الأسد صامدًا في وجه «ربيع عربي» عارم أسقط أربعة زعماء آخرين، وحليفها في لبنان (حزب الله) هو الأقوى سياسيا وعسكريًّا... ذلك كله يتواءم مع عودة روسيا بقوة إلى ميدان السياسة الدولية، وظهور ملامح «حرب عالمية باردة» بين الشرق والغرب. وبناءً على هذا الكم من التحوّلات، وهذا القدر من المتغيّرات... يتحتم على دول الخليج تغيير منظورها الأمني، وإعادة بناء سياساتها الإقليمية والدولية، وتحصين أمنها الداخلي، والشروع في مبادرات فعالة لحماية استقرارها في المديين المتوسط والبعيد.
* باحث ومحلل سياسي كويتي

تاريخ النشر - Publish Date
Issue Number
12983