ليلى البرادعي
TT

الإبقاء على الأمل حياً

لزمنٍ طويل ظل المصريون راضين وسلبيين. ووصفهم الكثير من المؤرخين والعلماء أمثال نزيه أيوبي من جامعة إكستر وجمال حمدان مؤلف كتاب «شخصية مصر»، بالشعب المتحمّل المتساهل الذي يتجنب المخاطرة ويحب الاستقرار في تجمعاته السكانية الزراعية بجوار نهر النيل.
وكما يعرف العالم ما عاد المصريون مستقرين، فلقد انتفضوا في ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 منهين حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك والذي استمر ثلاثين سنة، بسبب ممارسات الحكم الخاطئة وسياسات خلفه محمد مرسي المُنفرة. خرج الملايين الى الشوارع مرةً أخرى معلنين معارضتهم لحكم الإخوان المسلمين وداعين الى انتخابات رئاسية مبكرة. وبعد أيام قليلة تدخلت القوات المسلحة وأعلنت دعمها لمطالب الشعب. وهكذا جرت الإطاحة للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أعوام برئيس مصري وايداعه السجن. ثم دعت القوات المسلحة رئيس المحكمة الدستورية العليا لشغل منصب رئيس الجمهورية المؤقت، لكن الإطاحة بأول حكومة يرأسها رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية وتكوين حكومة أخرى لم تحدث بصورة ناعمة؛ فلقد أدت المقاومة القوية لأنصار الإخوان وأنصار الإسلام السياسي الى خروج مظاهرات وحدوث اضرابات عمّت جميع أنحاء مصر، وبلغت الاضطرابات حداً مأساوياً عندما فرقت قوات الأمن المتظاهرين المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة بالقاهرة متسببةً في قتل واصابة المئات منهم. ثم قادت تلك الأحداث الى جدل طويل حول ما إذا كان ما حدث ثورة جديدة أم موجة جديدة من الثورة أم انقلابا عسكريا. واتخذ مختلف المحللين السياسيين والمؤرخين والخبراء الدوليين بل وحتى الحكومات الأجنبية، مواقف اما مع وجهة النظر هذه أو تلك. وحتى في داخل الأسر المصرية امتنع الاخوة والاخوات وأبناء العمومة والخؤولة وغيرهم من الأقارب عن الحديث بعضهم مع بعض، حيث تمسك كل مناصر بفريقه في صراعٍ مُحيّر. ويبدو أن القليلين فقط هم من ادركوا أن المسألة ليست اما هذا أو ذاك وانه ربما نحتاج الى اضافة شروط ومفاهيم جديدة الى علمنا السياسي وقواميسنا.
عندما تكون هناك تحركات ومطالب شعبية كبيرة ساندتها القوات المسلحة فيما بعد وأدت الى تشكيل حكومة مدنية، فقد تكون تلك ظاهرة جديدة. ولعل المستقبل وحده هو القادر على توضيح كيف ستنتهي القصة، والتاريخ وحده – ويعتمد ذلك على من سيكتب كتب التاريخ -هو القادر على كشف النيات الحقيقية لمختلف الفرق التي يتعلق بها الأمر.
إن ما يهم المواطن المصري بصورة أكبر في الوقت الحالي هو الحاجة الى إدراك أن مطالب ثورة 25 يناير كانت مطالب بحياة ذات مستوى أفضل والحرية وكرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية. ويثير معدل التضخم المتصاعد وصعوبة الحصول على الوظائف وتردي الحالة الصحية وخدمات التعليم قلق المواطنين في الشارع، والذين قد لا يكونون مسيسين، بالاصافة الى صعوبة التوفيق بين الدخل والإنفاق بصفة عامة.
لا بد من توفر شرطين أساسيين حتى يجري تحقيق مطالب الثورة؛ أولاً: الأمن في الشوارع، وثانياً المقدرة على الاستماع بعضنا لبعض وتقبل الاختلافات في الرأي والتوصل الى تسوية من أجل المصلحة العامة. وهذان الشرطان مرتبطان بعضهما ببعض ومتشابكان. إن لم نستطع أن نتحاور ونتحدث الى بعضنا البعض وبقينا مستقطبين فسيسود عندها العنف وانعدام الأمن والعكس بالعكس. ومع تزايد العنف سيزيد استقطاب الناس ويتدهور الوضع الأمني بكل آثاره السلبية على الوضع الاقتصادي ومستوى حياة المواطن.
ليست هذه خطبة واعظ ولا دعوة للسلام والانسجام، لكنها ملاحظة نحتاجها للتعامل مع الأسباب الجذرية لمشاكلنا والتوصل لحلول مستدامة لمصلحتنا جميعاً. لا شك أن ذلك سيتطلب عملية مصالحة ربما تكون فريدة من نوعها لمصر وظروفها فقط، ولكن هنالك نماذج تستحق الدراسة، فبعد سياسة الفصل العنصري الطويلة في جنوب افريقيا والتي امتدت لعقود، استطاعت جنوب أفريقيا تأسيس عملية مصالحة أثبتت نجاحها في دمج كافة طوائف المجتمع من سود وبيض ومضطهَدين ومضطهِدين، وضمت عملية المصالحة عدة عناصر وكان نجاحها مضمونا بكل المقاييس..
كان المستوى العالي للزعامة، الذي تمثل في شخصيات رئيسة أبرزها نيلسون مانديلا رئيس المؤتمر الوطني الافريقي وف. دي كليرك الرئيس الأبيض الذي فتح الباب أمام التحول الديمقراطي باطلاق سراح مانديلا من السجن، عاملاً أساسياً لنجاح عملية المصالحة. ومن العناصر المهمة الأخرى شمول الأحزاب الرئيسة في مفاوضات وضع الدستور الجديد، والتزام تلك الجماعات بسيادة القانون خلال عملية الانتقال السياسي، وتأسيس هيئة الحقيقة والمصالحة عام 1995، وبعد إنهاء حكم سياسة الفصل العنصري طُلب من المعتدين الذين ثبتت إدانتهم واعترفوا بجرائمهم طلب السماح في جلسة مفتوحة.
ليس هناك نظام كامل، ولكن إن كان شعب جنوب افريقيا قد نجح الى حدٍ كبير في تجاوز عقبة كأداء كتلك خلال تحوله السياسي نحو الديمقراطية، فلماذا لا يستطيع المصريون ذلك؟ لا يشترط أن تكون نسخة من تجارب البلدان الأخرى، ولكن يمكننا التوصل بواسطة آلياتنا الخاصة الى تنفيس التظلمات وضمان الشفافية وتطبيق العدالة الانتقالية. إن الهدف هو درجة أكبر من الديمقراطية وحماية النسيج المجتمعي، ونبقى متشبثين بالأمل في مستقبل أفضل.

* عميدة مكلفة كلية الشؤون الدولية والسياسة بالجامعة الأميركية في القاهرة
بالاتفاق مع «كايرو ريفيو»
www.thecairoreview.com